هواء طلق
هل أخطأ الساسة والإعلاميون في تضخيم صورة البوعزيزي
فجنوا على الشباب اليائس?
بقلم: محمود الحرشاني*[i]
سامح اللّه من نفخ في صورة البوعزيزي من سياسيين وإعلاميين، وجعلوا من حادثة إحراقه ذات يوم شتائي بارد، أمام مقرّ ولاية سيدي بوزيد، وكان يوم جمعة، عملا بطوليا وجعلوا منه هو رمزا ثوريا، لأنّه ثار ضدّ الظلم والقهر... لقد نفخ الساسة والإعلاميون ووسائل الإعلام في الداخل والخارج في صورة محمد البوعزيزي، وصوّروا عملية إقدامه على إضرام النّار في جسده عملا بطوليا يتمنّاه كلّ إنسان، ولا يهمّ إن مت بعدك... المهم إن صوره باتت تملأ شاشات التلفزيون وبرامج الإذاعات وصفحات الجرائد والمجلاّت... فإذا الكلّ أصبح يتمنّى في نفسه أن يكون بوعزيزي آخر حتّى ولو أحرق نفسه، وتسبّب بعد ذلك في إحراق البلد بأسره...
لقد استغلّ الساسة المتعطّشون للحكم في ذلك الوقت عملية إقدام البوعزيزي على حرق نفسه، أبشع استغلال وانطلقوا منها بل تلقّفوا الحادثة، ولم يكن أحد ينتظرها للإجهاز على النّظام القائم وتجييش النّاس ضدّه والخروج للتظاهر صباحا مساء.
وأصبح بيت البوعزيزي في ذلك الوقت مقصد محطّات التلفزيون العالمية وكبريات الصحف وهات يا حوارات ولقاءات صحفية، مع عائلته.. وأقاربه.. حتّى "بون كيمون" الّذي لا يتحرّك بسهولة، تحوّل إلى زيارة عائلة البوعزيزي وخصّ "باراك أوباما" في أوّل خطاب له يلقيه في زيارته للقاهرة، محمّد البوعزيزي بفقرة مطوّلة، أثنى فيها على عمله البطولي.
وبذلك التقت عديد العوامل الدّاخلية والخارجية لتجعل من حادثة إقدام محمد البوعزيزي على إضرام النّار في جسده، احتجاجا على ما تلقّاه من سوء معاملة من عونة التراتيب البلدية، عملا بطوليا يتمنّاه كلّ شاب، ويرى فيه الحلّ لمشاكله.
لقد أحيطت حادثة إقدام البوعزيزي على إضرام النّار في جسده منذ البداية بالكثير من التهويل والتضخيم والمغالطات...
ولن يغفر التاريخ لأحد المحامين في سيدي بوزيد الّذي أشاع في تدخّلاته في وسائل الإعلام وكان يبحث عن فرصة للظهور أنّ البوعزيزي من أصحاب الشهائد العليا الّذين ملّوا الانتظار فقرّر أن يبيع الخضار على عربة متجوّلة وحتّى في هذه الحالة لم يسلم من مضايقات السّلطة فأقدم على إحراق نفسه.
وكان بذلك يسعى إلى تأجيج عواطف ومشاعر الشباب المعطّل عن العمل من حاملي الشهادات العليا، وكأنه كان يريد إن يقول لهم هذا هو المصير الّذي ينتظركم... الاحتراق والنّار أو الثورة على النّظام.
ومع الأسف انساقت الكثير من وسائل الإعلام حتى العالمية منها إلى ترديد هذه الكذبة الّتي اختلقها هذا المحامي المتعطّش للسلطة والركوب على الأحداث. لقد اخطأ الساسة والإعلاميون معا، في تسويق صورة البوعزيزي على أنّه بطل ملحمي وتسويق صورة إضرام النّار في الجسد على قارعة الطريق على أنّها الحلّ الأمثل لكل المشاكل الشباب الّذي يعاني من تأثيرات أزمة البطالة وانسداد الأفق. فازداد عدد المقدمين على إضرام النّار في أجسادهم بعد حادثة البوعزيزي، لا في تونس فقط وإنّما في عديد البلدان العربية في الجزائر، ومصر، واليمن وآخر هذه الحوادث المؤلمة ما وقع منذ يومين في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة أمام المسرح البلدي عندما أقدم شاب يشتغل بائع سجائر متجوّل على إضرام النّار في جسده ويموت في فجر اليوم الموالي متأثرا بحروقه.
ولسائل أن يسأل لماذا لم تثر هذه الحادثة الشنيعة والتي أعادت إلى الأذهان بشاعة سيناريو حادثة البوعزيزي ما أثارته حادثة احتراق البوعزيزي من اهتمام من قبل الساسة والإعلاميين.
لماذا صمت السياسيون هذه المرّة، حتّى أنّ عائلته عجزت عن دفع مبلغ 230 دينارا للمستشفى الّذي رفض تسليم جثّة الهالك قبل دفع المبلغ. في حين انهالت الملايين على عائلة البوعزيزي أو هكذا قيل في ذلك الوقت؟
من هنا نفهم أنّ حادثة البوعزيزي وقع تضخيمها وتهويلها بالطريقة الّتي تخدم أغراض السياسيين للإجهاز على نظام الحكم الّذي كان قائما في البلد...
ومع الأسف قدّم الساسة والإعلاميون بذلك المثال السّيئ لشبابنا اليائس والّذي أصبح لا يجد حلاّ لمشاكله إلاّ في أمرّين أحلاهما مرّ:
أمّا حرق نفسه بالنّار
أو الالتحاق بكتائب الجهاد في سوريا أو مالي وفي كلا الحالتين لا يعود إلى أهله إلاّ جثّة هامدة.
وهنالك شقّ ثالث تبتلعه مياه البحر وتأكله الحيتان في رحلة مضنية باتّجاه ايطاليا قد يعود منها حيّا أو لا يعود، هذه إذا سلم من الغرق وهجوم الحيتان المفترسة.
إرسال تعليق