كتاب واراء
بكل هدوء
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
صف الخاسرين
حرص بورقيبة دوما بإعلان أو بدون إعلان ، ليكون في صف الرابحين les gagnants سواء عن قناعة أو لحسابات سياسية وحتى ماكييفيلية، وأورث الديبلوماسية التونسية هذا التوجه ، وأعطى انطباعا بأنه على حق دوما ، حتى عندما لم يكن على حق ، ونحن اليوم في تونس في مفترق طرق ، على بلادنا أن تختار لتكون في صف المنتصرين أو المهزومين. هذا إذا ما زال متاحا ذلك.
أقول هذا الكلام ونحن في قلب المعمعة ولم نعد خارجها ، كما أوهمنا أنفسنا على مدى سنوات ، بشأن ما يحدث في ليبيا ، وعندما كان على تونس أن تكون على الحياد في أدنى الأحوال ، فإن حكامها وجانب من شعبها ، اختارا أن يقفا إلى جانب الميليشيات الإسلاموية ، على حساب القوة الحقيقية التي كانت مستعدة لتسيطر على ليبيا .
منذ 4 أفريل الماضي شن جيش حفتر عملية أسميت بالجراحية للسيطرة على طرابلس ، وحفتر هو عسكري ليبي عرف الهزائم على يد الجيش الفرنسي في تشاد في منتصف الثمانينيات ، عندما أراد العقيد القذافي أن يلحق نجامينا العاصمة بإمبراطوريته الأفرو عربية ، فهبت باريس لنجدة مستعمرتها السابقة ، واذاقت جيش معمر الويلات ، وأطردته بعد أن استولت على عدد كبير من الأسرى ، كان من بينهم الكولونيل ( وهي أعلى رتبة في الجيش الليبي حتى لا يكون أحد في صفوفه أعلى من القذافي نفسه ) .
يبدو أن الولايات المتحدة استنجبت أسير فرنسا ، فانتدبته لمهام محتملة ، ونقلته إلى واشنطن ، وبعد ثورة مارس في ليبيا وجد نفسه على رأس طغمة قليلة ، تم تكليفها من طرف الغرب للسيطرة على المنطقة الشرقية في انتطر أيام أفضل ، غير أن الأسير السابق وجد نفسه في نفس المنطقة التي انتقل إليها البرلمان المنتخب في سنة 2013 في كامل البلاد ، والذي أطردته ميليشيات الإخوان على اختلاف مشاربها من العاصمة طرابلس ، لتفرض نفسها بقوة السلاح ، وخارج إطار شرعية الصندوق الانتخابي كسيدة في طرابلس .
من هنا وجد حفتر نفسه متمتعا بشرعية ، أضفاها عليه برلمان منتخب كان مفترضا أن يتسلم السلطة في طرابلس ، ويشكل جكومة مناوئة للإخوان ولكن حيل بينه وبين الواقع.
نظريا فإن حفتر لا قوة شرعية ولا يتمتع حتى بالمشروعية ، إلا عبر برلمان وسلطة منتصبة في الشرق الليبي ليس لها عليه لا دالة ولا سلطة.
ووجد العالم نفسه في بلد واحد أمام شرعيتين ، شرعية من الخارج أي من الأمم المتحدة ، أضفتها على مجلس رئاسي عين على رأسه السراج في طرابلس بمهمة أساسية هي تصفية الميليشيات وإعادة قيام الدولة الليبية الموحدة ، وشرعية ثانية ممثلة في برلمان منتخب ولكنه مطرود من عاصمة بلاده ، بفعل تلك الميليشيات الاسلاموية، وعوض أن يقوم السراج بتصفية الميليشيات ، أصبح خاضعا لها وأصبحت تعتبر نفسها هي الدولة الليبية، ولم تكن الأمم المتحدة لتعطي السراج الوسائل التي تمكنه من أداء المهمة التي كلف بها ، أمميا فسقط بين براثن الميليشيات ، وبات أسيرا لها واستمرأ ذلك الوضع.
حفتر الذي تولى تصعيد نفسه من كولونيل إلى ماريشال ( أفضل من موبوتو في كينشاسا من سرجان إلى ماريشال ، وبوكاسا من أقل من سرجان إلى ماريشال ) وجد العون من الدول المضادة للاسلام السياسي ، مثل الامارات والسعودية ومصر وإلى حد ما فرنسا ، ما وضع السراج وميليشياته في حماية قطر وتركيا وإلى حد ما إيطاليا ، علما وأن لكل مصالحه الخفية ، ومنها استثمارات ب18 مليار دولار لتركيا ما قبل نهاية القذافي ،الذي كان صديقها تريد أن تسترجعها أو تعيد وهجها ، وإيطاليا التي تغمز لبترولها وغازها في المنطقة الغربية ، وفرنسا التي تغمز من جهتها لشركاتها البترولية في الشرق الليبي ، وكلا الطرفين ، وحتى غيرها مثل مصر والإمارات ، ولكن خاصة الولايات المتحدة وروسيا ، كلها تنظر بعين الطمع باستغلال جانب من عائدات إعادة الإعمار، التي ستتكلف في أقل التقديرات بـ270 مليار دولار ، ستدفع من الأموال الليبية متى انتهى أتون الحرب المشتعلة.
تونس وحدها هي التي لم تبحث عن مصلحتها ، فيما الجزائر التي عاشت خلال أشهر عديدة على حافة بركان، لم تعرف لا هي الأخرى مصلحتها وانشغلت عنها بوضع داخلي متفجر لا يعرف أحد متى يسترجع توازنه ، ولذلك كان انخراط تونس بلا مواربة إلى جانب السراج وميليشياته الاسلاموية إرضاء للنهضة، فيما عدا سنة 2014 عندما تولى مهدي جمعة رئاسة الحكومة ، ومنجي حمدي وزارة الخارجية ، حيث حاولا بأكثر أو أقل توفيقا ، الوقوف على حياد لم يكن ليرضي لا هذا الطرف ولا ذاك.
أين هو الوضع اليوم ؟
وهل وقع حساب الربح والخسارة ، فيما عليه الموقف التونسي وهو ما يهم في المحصلة البلاد ، وشعب الجنوب الذي كان أكبر المتضررين من الحاصل في ليبيا.
غالب المراقبين عبر العالم يقولون إن حفتر يسيطر على ما بين 80 و85 في المائة من الرقعة الليبية ، وإذا تركنا أقوال هؤلاء وأولئك من المتواجهين ، واطلعنا على تقارير الصحافة والتلفزيونات المتسمة عادة بنقل أخبار موضوعية ، فإن الخناق قد ضاق ضيقا شديدا حول السراج وميليشياته ، يبرهن على ذلك جري السراج السريع وراء تحالف مع تركيا بقصد إنجاده ، وهو اتفاق في نظر شراح القانون غير قانوني ، لأنه ليس صادرا عن حكومة تتمتع بالسيادة على أرضها ، ولا يمكن اعتبارها دولة بالمفهوم القانوني والواقعي للدولة ، ومهمة السراج التي كلفته بها الأمم المتحدة لا تسمح له باتخاذ مثل هذه الخطوات.
غير أن التبادلات القانونية والسيادية لم تعد هي الفيصل اليوم ، وبعد التطورات على ساحة المعارك ، بل وكما قال هتلر وللأسف ، فإن الحق بات في أفوه المدافع.
وإذ يمكن للمرء أن يستنتج أمرا ، فهو أنه من المستحيل على حفتر ، أن يحتل قلب طرابلس ، إلا إذا لجأ لقوة كاسحة تؤدي لقتل المئات وحتى الآلاف لتشابك ما هو أهداف عسكرية بالمدنيين ، في عاصمة مثل طرابلس ، ولكن ومن جهة أخري إن حكومة يضيق عليها الطوق لهذه الدرجة ، لا يمكن أن تستمر طويلا ، هذا إذا كانت لها شرعية شعبية علما ، وأن حتى المفتي الغرياني وهو من هو تأثيرا معنويا في ليبيا ، قد انقلب وهو من أشد أنصار السراج ، إلى تأييد حفتر الذي يسميه الآن سيدي المشير.
ولعل مؤتمر برلين في الأيام الأولى من جانفي ، سيفرض على ليبيا حلا ترعاه أوروبا الغربية والولايات المتحدة وروسيا ومصر والامارات ، لفائدة الذين يسيطرون على الأرض أو غالب الأرض ، ويقع "اقتصاد" مجزرة في طرابلس.
**
كلمة أخيرة ... لك الله يا تونس في اختياراتك الاستراتيجية الخاطئة ، فإذا بات حفتر على أبوابنا ، هل ما زالت تكون ليبيا مفتوحة لعمالنا ، ولشركات مقاولاتنا ، وللتجارة البينية التي كانت مزدهرة في زمن سابق ؟ هذا فضلا عن عداء كامن قد لا يظهر للعلن ولكنه باق تحت السطح يؤثر تأثيرا كبيرا.
هذا عدا التداعيات السياسية المحتملة نتيجة التطورات الآتية ؟؟؟؟
fouratiab@gmail.com
إرسال تعليق