الكاتبة المغربية لطيفة لبصير تكتب // الرقة والعنف

‏‎Latifa Labsir‎‏الرقة والعنف





بقلم لطيفة لبصير*

يبدو أننا أصبحنا بعيدين جدا عن صوت فيروز وهي تغني: *عم يلعبوا الأولاد، عم يلعبوا... تحت السماء الزرقاء عم يلعبوا...* اليوم يلعب الأطفال بأسلاك كهربائية ويقتلون الفراشات ويحرقون القطط، و ينهمكون في ألعاب الأنترينت وهم يعدمون آلاف الوجوه بقنابل وهمية ويشاهدون وجوها غريبة وهي تتحدث عن الإعدام والتصفية الجسدية. حين نتأمل هذا العالم الذي أصبحنا منخرطين فيه سواء رغبنا أم لم نرغب، نجد أننا نتاج هذا العصر الصاعد من الحروب والعنف. فنحن نشاهد يوميا آلافا من الناس تذوب في دقائق وتنقل جماعة إلى المقابر، ونحن نرى يوميا العرب يموتون تباعا وكأنهم ينجزون ثأرا قديما ضد بعضهم البعض، ونحن نرى الحب ينزاح إلى الخلف، فالبعض يعض بعضه في كل الدقائق. ولكن من أنتج كل هذا العنف؟ ولماذا نحن نستهلك وننفذ دون أن نفكر؟
حين نتأمل هذا العالم الالكتروني الجميل، نجد أننا أصبحنا ننجز من خلاله أشياء هامة جدا وأصبحنا نستحضر من خلاله العالم، وكأننا حاضرون في ظل هذه الشساعة الكوكبية، ولكن رغم كل ذلك فنحن نعدم أشياء جميلة جدا، فالكثيرون ينامون على شاشات الجهاز ويستيقظون عليه، وهو في نفس الآن يمتص الطمأنينة ويتعب البدن والعينين ويملأ الدماغ بالعديد من الأفكار المختلطة، ويزرع القلق، لأننا لا نفكر ونحن نجتاز الطرقات ونعبر الممرات التي في أحضانه، بل نستهلك ونحن أمام دهشة الاكتشاف، ونصير مع الأيام ضحايا عنفه الكامن الذي يبني عوالم من الصخب في جلد أطفالنا الذين صاروا أكثر عنفا من الذي مضى.
في شريط أجنبي يحمل عنوان: *انتقام* كان الأطفال يتعلمون العنف في المدارس و الرغبة في الانتقام فيما بينهم، ويحاول أب أحدهم وهو طبيب أن يعلم الأطفال كيف يتسامحون مع الآخر رغم عنفه، خاصة حين تعرض للضرب من أحد الآباء، لكن منطق الأطفال هو الانتقام، لأنهم يشعرون أن الانتقام هو الضرورة المنعشة للكرامة. فكيف سنعلم الأطفال عدم الانتقام ونحن نعبر في كل يوم مشاهد لا تحصى من السب والعنف؟ كيف نعلمهم الرقة وهي تنسحب كل يوم من قواميسنا حتى بتنا لا نشعر بها؟ كيف نعلمهم الحب وهم يشاهدون كل يوم آلاف اللاجئين يغادرون أوطانهم باتجاه ما لا يعرف؟ كيف نعلمهم أن يرسموا الشمس الزرقاء وأن يدفؤوا بغطائها الجميل؟
الرقة تنزوي من محيطنا، وعلينا أن نبحث عنها. الرقة الجميلة العذبة التي تولد الاحساس بالآخر، بالأخ، بالصديق، بالجار، بالعالم. لقد تغيرت الكثير من الأشياء الجميلة وصارت كالحلم حين نفكر بأن كل الروابط تنفك، فلا وجود للانصهار، بل صار لنا مجتمعات ذات نزعات فردية، يفكر كل شخص في نفسه، وفي حياته اليومية، ويضرب كل ما يعترضه في مساره الحياتي.
هل نسير إلى الهاوية، كما يتساءل إدغار موران؟ من المؤكد أننا نجتاز أسوأ الفترات العصيبة في تاريخنا الحديث، ومن المؤكد أن العنف يبدأ من الميلاد ونحن نرضع الكراهية مع القطرة الأولى، ومن المؤكد أن أزمنة أخرى خلقت هذا التباعد، كل هذه الأشياء التي تبعث على المحن .
لماذا لا نبحث عن الرقة في حضن العنف؟ ربما يبدو التساؤل حالما في ظل ما نعيشه كل يوم، لكن العنف اليومي لن يؤدي إلا إلى عنف كوني، حين نتأمل حجم التباين بين الطبقات وحجم الغل الصاعد من الأعين، وحجم الاختلاف بين الأزواج، وحجم التشرد والتحرش والاغتصاب والفقر والسرقة والقتل والحوادث وعدم التفكير في الآخر والعدمية وووو...
أشياء كثيرة تكبر معنا، ونحن لا نحتمي إلا بالعنف، ونزداد ألما، ونزداد عنفا كل يوم، ولا نفسح للصدور بأن ترق كل يوم.
هل سيلعب أطفالنا تحت سماء زرقاء صافية ذات يوم دون عنف وألم؟ ما زلنا ننتظر...

* كاتبة مغربية وصديقة مرآة الوسط

comments

أحدث أقدم