الدكتور احمد القديدي يكتب // المجاهد العربي الذي حوكم بالإعدام ثلاث مرات و مات مدهوسا بسيارة!


مواقف




المجاهد العربي الذي حوكم بالإعدام ثلاث مرات و مات مدهوسا بسيارة! 
د.أحمد القديدي

عرفته شخصيا في شهر مارس آذار 1973 حين عاد إلى وطنه و وطني تونس بعد رحلة من رحلات عذابه الطويل و حين وقع الرئيس بورقيبة عفوا رئاسيا يلغي الحكم بالإعدام الصادر ضده في 1957. انه المجاهد التونسي العربي عمنا حسين التريكي رحمة الله عليه. و كانت تربطني في ذلك العهد صداقة طيبة بنجله عمر الموظف بوزارة الإعلام و الذي حرم من والده سنوات حين كان المناضل الكبير حسين التريكي ممثلا لجامعة الدول العربية في الأرجنتين و عموم أمريكا اللاتينية. و قصة العم حسين من أغرب قصص الكفاح من أجل التحرير في تونس و في فلسطين و آخر مرة قابلته فيها كانت حين زار الدوحة فأعدت معه تحريك رماد الذاكرة القوية أستزيد من حكمته و تجارب حياته. و إني سعدت جدا بالمبادرة التي يقوم بها نجل أخيه محمد فوزي التريكي لإعادة تصحيح التاريخ ومؤسسة التميمي حيث نظمت ندوة علمية تكلم خلالها المناضل الكبير حسين التريكي أمام جيل المؤرخين الشبان. و شيخ المجاهدين العرب ظاهرة حقيقية نادرة في تاريخ الكفاح المعاصر حيث أنه حوكم بالإعدام في محاكم الاستعمار الفرنسي عام 1947 لنشاطه المسلح من أجل التحرير ضمن فصائل المقاومة التابعة للحزب الدستوري بقيادة الزعيم بورقيبة و كان مكلفا بمهمة سرية تتمثل في توفير المتفجرات و تصنيع المفرقعات حتى تتمكن المقاومة من القيام بأعمال فدائية ضد غلاة الاستعمار. و حين اقترب موعد الاستقلال و النصر ابتعد التريكي عن بورقيبة و اقترب من منافسه على الزعامة صالح بن يوسف و دخل في حركة عروبية متأثرة بالثورة الناصرية والقومية العربية و انحاز للجناح المشرقي للحركة الدستورية التونسية وربط الصلة مع المقاومة الجزائرية بل و عين عضوا ضمن الوفد الجزائري المفاوض لفرنسا برئاسة رئيس الجمهورية الجزائرية المؤقتة فرحات عباس. وفرحات عباس رحمه الله هو نفسه الذي حدثني شخصيا عن تلك المرحلة من الكفاح و عن الدور الفعال الذي قام به حسين التريكي و تونسيون آخرون صلب الثورة الجزائرية و كنت أتردد على بيت طيب الذكر فرحات عباس في مدينة نيس الفرنسية بعد رحيله عن الجزائر و كان ذلك عام1978 بواسطة صديقه و صديقي الفرنسي الجزائري جيلبار كورنتو. ثم استقلت تونس وأصبح بورقيبة أول رئيس جمهورية فيها ونصب المحاكم الجائرة لتصفية منافسيه والانتقام منهم ومن العائلة المالكة فنال حسين التريكي حكما بالإعدام عام 1957 و فر هاربا إلى ليبيا مشيا على الأقدام في الصحراء في نوفمبر من نفس العام حتى بلغ القاهرة التي كان له فيها أصدقاء من أيام تأسيس مكتب المغرب العربي في الأربعينات. و في مصر احتضنته الجامعة العربية و عينه أمينها العام عبد الخالق حسونة مندوب الجامعة في أمريكا اللاتينية و طار إلى (بيونس أيرس) حيث أنجز أعمالا مشرفة في التعريف بالقضية الفلسطينية و مقاومة الدعاية الصهيونية ونشر عدة كتب و صحف باللغة الأسبانية سرت في القارة الجنوبية لأمريكا مسرى النار في الهشيم و فضحت الاحتلال الإسرائيلي و ربط التريكي علاقات بالأوساط الدبلوماسية العاملة في الأرجنتين إلى درجة أن المخابرات الإسرائيلية حكمت عليه بالإعدام وحاولت تنفيذ الحكم مرات عديدة في عدة بقاع من أمريكا الجنوبية و فشلت و عاش حسين التريكي بعد هذا الحكم الثالث بالإعدام. كان التريكي مؤمنا بأن قضية تحرير تونس من الاستعمار لا يمكن أن تنفصل عن قضية تحرير الجزائر و المغرب و فلسطين و بأن العرب قوة عظمى إذا توحدوا وكان هذا هو وجه الخلاف مع بورقيبة الذي كان يدعو إلى انتهاج سياسة خذ و طالب. هذه بعض مقتطفات من حياة الرجل الذي بدأ حياة الكفاح عندما كان في الخامسة عشرة من عمره أي عاشر76 عاما من المقاومة وكان يسمي نفسه إلى يوم وفاته مقاوما ما دامت فلسطين لم تتحرر و تؤسس دولة مستقلة و ما دام العرب لم يوحدوا الصفوف و لم يجمعوا كلمتهم. لا أخفيكم أنني إلى اليوم لا أزال متعجبا كيف لم تتصل القنوات الفضائية العربية بشيخ المجاهدين ليكون على الأقل شاهدا على العصر و قد عاش قرنا من الكفاح وكيف لم تتحرك أية حكومة عربية لتكريمه و كيف لم يفكر أي قسم للتاريخ في أية جامعة عربية لاستقدام هذا المنجم الحي من التاريخ بل و كيف أهملت جامعة الدول العربية ممثلها القديم في نصف القارة الأمريكية ؟ و الأهم من هذا كله كيف لم يسأل بعض ولاة أمورنا في تونس عن وضع حسين التريكي و كيف عاش و هل كان يتقاضى راتبا و هل لديه المال ليتعالج وهو الرجل المتعفف الذي لا يشكو و لا يمد يده لأحد. قبل وفاته رحمه الله سلمني ملف شقته الصغيرة في (بيونس أيرس) المهددة بالبيع من قبل البنك لأن عم حسين تأخر ثلاثة أشهرعن تسديد القرض! فتصرفت شخصيا بما يقتضيه ضميري في بلاد عربية غير تونس و لكن القدر كان أسرع لأن هذا البطل المجهول دهسته سيارة في أحد شوارع (بيونس أيرس) إن غياب القيم الأخلاقية في العالم العربي أمر يستحق وحده الدرس و التقييم و إن لله الأمر من قبل و من بعد !

alqadidi@hotmail.com

comments

أحدث أقدم