أسرار العدوان الثلاثي على مصر في ذكراه الثالثة والستين د.أحمد القديدي



الراي الحر





أسرار العدوان الثلاثي على مصر في ذكراه الثالثة والستين




د.أحمد القديدي

جمعني منذ بضعة سنوات لقاء غريب وغير متوقع مع رجل يحمل في ذاكرته جزءا من تاريخنا العربي وبعضا من فواجعنا العربية. وقد تم ذلك اللقاء في باريس عندما كنت باحثا ومعيدا في جامعة السربون العريقة ولم تكن صفحات المجلات والجرائد العربية مفتوحة في وجهي ولم تكن تتسع لقلمي لأني كنت وقتها معارضا شرسا منفيا .. فاحتفظت بشهادة ذلك الرجل في وثائق على مدى سنوات ثم حال تنقلي بين مناطق عديدة في فرنسا والخليج دون نشرها وضاعت مني الى ان عثرت عليها في (كراتين) قديمة حرصت على الاحتفاظ بها ووجدت ان تلك الشهادة لا تزال حية بل هي تلقي اضواء ساطعة على جانب غامض من اجهاض الحركة القومية الناصرية عام 1956و أعتقد أن تعريف الشباب العربي بخفايا العدوان في ذكراه الثالثة والستين واجب و خدمة للتاريخ و تذكرون أن الممثل أحمد زكي رحمه الله كان أحيا في شريط ناصر 56 تلك الأحداث الجسيمة ليطلعنا على الوجه العربي من العملة, لكن الوجه الآخر, وجه المعتدين الثلاثة لا يزال غامضا وسريا وتكتنفه ظلمات خزائن وثائق الدول المعتدية: فرنسا وبريطانيا واسرائيل, واعتقد انني بنشري لهذا الحديث مع (كرستيان بينو) وزير خارجية فرنسا عام 1956 اساهم في اماطة اللثام عن اخطر المؤامرات ضد العرب بلسان رجل كان هو المهندس الحقيقي لذلك العدوان مع رئيس الحكومة البريطاني (ايدن) ورئيس الحكومة الاسرائيلية (بن جوريون). لم أكن اصدق من فرط غرابة الموقف! نعم. ما اعجب تصاريف الحياة وما اشد تقلباتها, كنت اخترق الفناء الشهير لجامعة السربون العريقة حيث يجلس تمثال عالم البيولوجيا باستور الى جانب تمثال شاعر فرنسا الكبير فكتور هيجو, وكان مطر شهر مارس يهطل زخات على بلاط فناء السربون النظيف اللامع وكنت ممسكا بذراع ذلك الرجل العجوز وهو يتحرك بصعوبة ونتجه معا الى احدى قاعات الدور الاول هذا الرجل النحيف القصير ذو الصوت المتهدج الذي امسك بذراعه لمساعدته تحت المطر هو نفس الرجل الذي هندس للعدوان الثلاثي على مصر وكان قائد (الجوقة الثلاثية) التي قلبت موازين العلاقات الدولية عام ,1956 نفس هذا الرجل هو الذي مثل فرنسا في اجتماع (سيفر) السري الذي اتخذ قرار العدوان ونفذه . نفس الرجل الذي قاد جزئيات العدوان وعاش احداثه من غرفة العمليات وفي معابر قصر الاليزيه وعلى منبر منظمة الامم المتحدة وكان ابرز الوجوه الثلاثة صانعة العدوان الى جانب رئيس الحكومة البريطانية (ايدن) ورئيس الحكومة الاسرائيلية (بن جوريون). كان هذا الرجل الذي يتوكأ على ذراعي هو (كرستيان بينو) وزير خارجية فرنسا في الخمسينيات اي الرجل الذي كان يحتل الجانب المقابل من خندق الصراع في شريط (ناصر 56) هذا الشريط الذي سعدت بمشاهدته على شاشات السينما وعشت تلك اللحظات الساخنة المتسارعة مع الممثل احمد زكي وهو يحاول استحضار شخصية عبدالناصر ورسم ملامح ذلك التحدي التاريخي لقوى الاستكبار. كان الرجل العجوز الذي يحدثني بصوت خافت هو (كرستيان بينو) وكنت اصررت على مقابلته حين دعاه استاذنا المستشرق (دومينيك شوفالي) ليلقي محاضرة في قسم الدراسات العليا بالسربون عن السياسة الخارجية الفرنسية في الخمسينيات بازاء حركات تحرر الشعوب, واغتنمت تلك المناسبة لاطلب من كرستيان بينو ان يرفع جزءا من الستار عن العدوان الثلاثي, خاصة وان الدولتين الاخريين المشاركتين في العدوان حفظتا كل الوثائق المتعلقة بالعدوان في خانة (اسرار الدولة) بل ولم يستطع اي مؤرخ ان يحصل على نسخة من اتفاق (سيفر) الذي وقعه الرجال الثلاثة: بينو وايدن وبن جوريون والذي يقرر العدوان وخطواته ومراحله وكيف ستقوم الدبلوماسية في كل من فرنسا وبريطانيا واسرائيل بتزييف حقائقه وملابساته وتسويقه للرأي العام العالمي في شكل (تدخل لوقف العنف)!. وبدأ (كرستيان بينو) حديثه باعتراف مفاجىء وخطير حيث قال لي: اعتقد اننا اخطأنا نعم اخطأنا ولم اعد شخصيا اؤمن بان اسرائيل مظلومة وانا اليوم لا اوافق على كثير من ممارساتها, لكن من الصعب ان نفسر ما حدث عام 56 خارج اطاره التاريخي وخلفياته السياسية.ويواصل كرستيان بينو حديثه قائلا: "ليس سهلا ان نحكم على احداث الامس ومواقف الامس بعيون اليوم وعقول اليوم فالمعطيات تغيرت والمقتضيات تبدلت حتى معنى التاريخ طالته رياح التغيير. لقد كان العمل العسكري الذي قمنا به نحن وبريطانيا واسرائيل ابنا شرعيا للعقدة النفسية التي اصابت اوروبا من جراء محنة الشعب اليهودي على ايدي هتلر والنازية, كنا في عام 1945 بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي نشعر بان علينا دينا يجب تسديده لليهود, كان ذلك هو الشعور السائد في اوروبا كلها, وكنا نعيش تحت وطأة الصور البشعة التي كنا نشاهدها في محطات القطار عندما كان الالمان يأخذون آلاف اليهود في قطارات مكشوفة وفي برد وثلج عشرين تحت الصفر نحو محتشدات (داشو) و (باكنواج). المشكلة كانت بالنسبة للاوروبيين هي ماذا نقدم لليهود كتعويض؟ وجاءت دولة اسرائيل التي انشأت بقرار من منظمة الامم المتحدة (نوفمبر 47). ومن جهتنا كاوروبيين حاولنا في مؤتمر روما تكوين نواة للوحدة الاوروبية وفكرت انا شخصيا في جيش موحد بين المانيا وفرنسا, وعند وصولنا للحكم في باريس سنة 1956 برئاسة (جي مولي) فيما سمي بالجبهة الجمهورية اختار للوزارة الاولى (بيار منداس فرانس) الذي ساعد على استقلال المغرب العربي ففي نفس العام 1956 استقلت كل من تونس والمغرب وبدأت حرب مريرة طويلة في الجزائر وشعرنا ان شعارات عبدالناصر وتصريحاته بدأت تشكل دفعا قويا لجيش جبهة التحرير الوطني الجزائرية بالاضافة الى وصول اسلحة مصرية عبر ليبيا وتونس للثوار الجزائريين. وعينت انا وزيرا للخارجية لكني لم أكن ادير ملف الجزائر فقد كانت شؤون الجزائر من صلاحيات وزير الشئون الجزائرية وكان (غاستون ديفير) وزيرا للشئون الافريقية ولم اكن انا على صلة الا بالقضية المغربية وارهاصات نفي الملك الراحل محمد الخامس الى جزيرة مدغشقر بينما تكفل رئيس الحكومة (بيار منداس فرانس) بالملف التونسي الذي اوصله الى الاستقلال بعد مفاوضات شائكة. وفي تلك السنة 1956 بلغنا نبأ تأميم قناة السويس ومنع عبور البواخر الاسرائيلية ذهابا وايابا من القناة وقيل لنا وقتئذ ان هذا الاعلان من قبل عبدالناصر ماهو الا انتقام من الولايات المتحدة وبريطانيا على عدم الموافقة على تمويل بناء السد العالي. وبينما كنا في الحكومة الفرنسية تحت وقع هذه الصدمة, ارسل لنا (بن جوريون) رئيس حكومة اسرائيل يقول: ان عبد الناصر يعد حربا ضد اسرائيل ونحن دولة صغيرة ناشئة وان تأميم القناة ماهو الا حلقة اولى في مخطط ابادة شعب اسرائيل, ورددت الصحافة الفرنسية هذا السيناريو الاسرائيلي. وفي مرحلة ثانية فاجأنا (بن جوريون) بقوله: "سوف نبدأ نحن بالحرب الوقائية ونحتاج من فرنسا وبريطانيا فقط الى غطاء جوي".












comments

أحدث أقدم