زوايا الكلام* ما يتبقى من الامكنة...//بقلم الدكتورة لطيفة لبصير . المغرب


زوايا الكلام*



ما يتبقى من الامكنة...





بقلم الدكتورة لطيفة لبصير

المغرب


حينما تلقيت دعوة مهرجان مرآة الوسط للمشاركة في لقاء ثقافي بسيدي بوزيد بتونس، عنت ببالي فكرة أولى جعلتني أتوقف عندها قليلا، وهي أن هذه المدينة تذكرني بلحظة اندلاع الثورة وانتحار البوعزيزي. كانت المدينة قد صار لها صيت كبير بعد الثورة، وتحدثت عنها كل وسائل الاعلام. في البداية شعرت بالخوف، لأنني تخيلت الظروف غير الآمنة للبلد، لكنني قررت في الأخير أن أذهب الى تونس؛ هذا البلد الذي لطالما كنت على وشك أن أزوره قبل الثورة، لكن الظروف أبت.

في البلد كنت أتجسس على لوجوه الغريبة كعادتي حين أزور البلدان لأول مرة، أقرأ وراء ملامحهم نوعا من القلق االخفي، والترقب غير المطمئن لما يحدث، وكأن المقاهي نفسها تعكس ذلك. وكنت أسعى لمعرفة ما يحدث فعلا وأنا أنصت لشكوى الباعة في الأسواق، وأتأمل الطرقات والآثار التي تعلن عن أناس رحلوا ومروا من هذا المكان.

لم أكن أتوقع أن مدينة سيدي بوزيد بعيدة الى هذا الحد عن المركز، وحين وصلت اليها كنت أبحث عن الصور التي تؤرخ لما حدث، وبدت لي المدينة ملفوفة في جو صحراوي لا يخففه سوى جمال أناسها والشاعرات اللواتي التقيتهن، وهن يتحدثن عن القصائد الجميلة والأغاني التراثية التي جعلتني أبحث على النت وأعيد سماعها كما لو أنني أستمع الى شجن جديد أحمله معي من هذا المكان.

في سيدي بوزيد هذه المدينة الهامشية التي تحتاج الى مرافق كثيرة لكي تشرق، جاء مجموعة من الشعراء لالقاء صوت الحب والورد والأمل. كان كل ما حولي يجعلني أردد بداخلي، لا شيء يتبقى من الأمكنة سوى آثارها وشجنها الذي يجعلنا نعود اليها. فحين نتذكر كل الأشخاص الذي عبروا في حياتنا، فنحن لا نتذكر سوى ما تركوا لنا من مشاعر أو أفكار أو آثار كيفما كانت، حتى أننا نذوب في بعض الأحيان ونحن نستعيد من خلال بعض الأغاني أصواتهم الغائبة.

أسمع صوت شاعرة جميلة تغني احدى أغاني التراث :"ريت النجمة شيعت عيني يا حبيبي"، وأستشعر مدى الآلام التي ورثتها البشرية وهي تحلم وتتحرك وتعيش وترغب في شيء أفضل، وفي النهاية تنتهي الأعمار مخلفة روائحها في الأمكنة.

ذهبت في الليل الى حيث ذكريات البوعزيزي، صوره والعربة التي أصبحت تمثالا شاهدا على ذكراه وتأملت ابتسامته الساطعة التي تطل على المكان، وسألت نفسي: هل كان بطلا حين أحرق نفسه؟ هل كان الأمر متعلقا بالحكرة الذاتية كرجل، أم أن الأمر نابع من تراكم لا ينتهي من الاحتياجات؟ وهل أفلحت الثورة الآن؟

تظل العديد من الأسئلة نائمة في مهدها، وبطبيعتي أتشبث بالأشخاص الذين يرافقونني وأراهم يخلقون من العالم أفكارا ومشاعر تنام في القصيدة وكأنها ومضات تشهر مجازها في وجه التاريخ، ولا يستطيع التاريخ أن يمحوها.

في الليل أستمع الى عبد الهادي الجويني وهو يغني أجمل الأغاني الهادئة على القلب، وكأنني أنام في المكان بكل روائحه ونوعية أكله وأصدقائي الذين يحثونني على أكل الهريسة التونسية في كل المأكولات الجميلة، الكسكس بالعلوش، والبريكة التي يتفننون بصنعها، وأنواع الزعلوك التي تشبه طريقتنا في الطهي بشكل ما، والسرعة في الحديث وهم يحكون لي الحكايات وأنا ألتقط بتأن ما يقولون، كل ذلك وأنا أستنشق روائح شعب آخر يغامر ويتحدى ويتمنى الأفضل في المستقبل. صوت عبد الهادي الجويني يجعلني في قلب الذكريات، فقد سبق أن استمعت اليه منذ زمن بعيد، لكنه الآن يتكىء بهدوء في مكانه الأصلي وأنا أردد معه:

"تحت الياسمينة في الليل...نسمة والورد محاميني

الأغصان عليا تميل، تمسح ليا في دمعة عيني...

تحت الياسمينة اتكيت، عدلت العود وغنيت...

وتناثر دمعي وبكيت، تفكرتك كيف كنتي تجيني..."



وأقول لنفسي بهدوء، بالفعل هذا ما يتبقى من الأمكنة، روائحها وذكرياتها وأصواتها المهموسة وحكاياتها التي لا تنتهي...
---------------

* عنوان الركن من اختبار اسرة التحرير
**نشر هذا المقال بمجلة نساء المغربية وجريدة الزمن التونسي التونسية

comments

أحدث أقدم