حياتي مع الصحافة، من الهواية الى الاحتراف
بقلم محمود الحرشاني
الحلقة الأولى
عندما أكتب قصّتي مع الصحافة، فإنني أكتب قصّة عمري فهي المهنة التي لم اتقن مهنة سواها وهي المهنة التي استهلكت اربعين سنة من عمري دخلتها وأنا في العشرين،يملأ الطموح قلبي ووجداني، ويسكنني هاجس النجاح والتفوّق، والصحافة هي المهنة الوحيدة التي يقترن الاستمرار فيها بالنجاح، وهي مهنة لا تعترف بالفشل والفاشلين، ولكي تنجح في مهنتك كصحفي يجب أن تضحّي بأشياء كثيرة، وأن تقرأ أكثر ممّا تكتب، وأن تتعلّم من الكبار أكثر ممّا تقدّم. لذلك كانت حياتي في الصحافة عبارة عن سباق يومي، لم أهتم بأشياء أخرى كثيرة أهتمّ بها غيري وكرّست كلّ جهودي وإمكانياتي لها وحدها.
دخلتها مكسو الرأس وبعد أربعين سنة زحف الصلع على أهمّ مساحات رأسي، وما يقي فيه من شعر تحوّل لونه من سواد الى بياض.
نشرت أوّل مقال صحفي في حياتي بمجلّة الإذاعة في ركن يريد القرّاء في عدد جويلية 1972 وكان عنوانه رفقا بمعدّي البرامج الاذاعية كان المقال أقرب الى الرأي الانطباعي منه الى المقال الصحفي، وفرحت كثيرا بنشره ولم يعر الاهل أهمّية كبيرة للموضوع ولكن والدي ووالدتي فرحا بنشر اسمي في المجلّة وربّما كنت أوّل من ينشر اسمه في مجلّة في قريتنا.
كان الوقت صيفا ، ولم يكن لنا في قريتنا البعيدة وسائل ترفيه كثيرة وأغلب الأطفال كانوا يشتغلون عند الفلاّحين في جمع صابة الّوز أو في الحضائر، وأنا كنت أشتغل في الحضائر ولكن رئيس الحضيرة كان رفيقا بي وسيأتي الحديث عنه...
وكنت عندما أعود من العمل في الحصيرة أقضّي بقية الوقت في الاستماع الى الاذاعات مثل اذاعة لندن وإذاعة كولونيا العربية وإذاعة بلغاريا وعديد الاذاعات العربية مثل اذاعة صوت العرب في مصر وإذاعة الجزائر.
والإذاعة التونسية طبعا وإذاعة صفاقس وكانت عندي برامج لا أتخلّف عن متابعتها، وخطر لي أن أراسل بعض هذه الإذاعات وكانت مغامرة مجنونة منّي، وقد كوّنت أوّل ناد لمستمعي اذاعة كولونيا بألمانيا بقريتنا وأصبحت الاذاعة تذكر اسم نادينا في برامجها، وتكوّن النادي منّي أنا ومن شقيقتيي وابن عمّتي وابن خالتي وفي الحقيقة أنا اضفتهم لمجرّد أن يكون في النادي أعضاء، وأصبحت الاذاعة تزوّدنا بالمجلاّت والكتب، وأرسلت لنا بطاقة اعتماد نادينا ضمن شبكة نوادي مستمعيها في العالم، كما نشرت خبرا عن تأسيس نادينا في مجلّتها، وعندما وصلتنا المجلّة ووفيها خبر عن تأسيس النادي اطلعت عليه والدي ففرح بذاك كثيرا، وكذلك عمّي المرحوم محمّد الحرشاني الّذي كان يشجّعني على المطالعة والكتابة، وعلم بالأمر الاهل فجاؤوا يهنّؤون والدتي، بعدما اعتدقوا انّني اصبحت شخصية مهمّة، يتردّد اسمي في اذاعة عالمية !!!
ولن أنسى ابدا فرحة عمّتي الكبرى رحمها الله وكان من عادة العائلات في الأرياف ان يتحلّقوا حول الراديوا ليلا للاستماع الى برنامج كانت تقدّمه الاذاعة التونسية بعنوان "صور من الحياة"
يعدّه بورادي بن عبد العزيز لأنّه يقدّم روايات اذاعية مستمدّة من الواقع في النصف الأوّل من البرنامج وفي النصف الثاني يقرأ المذيع تعاليق المستمعين على الحصّة السابقة وفوجئت عمّتي رحمها الله بذكر اسمي في البرنامج ولم تكن تعلم بذلك. فهزّتها فرحة كبيرة على ما يبدو ووقفت بجانب منزلها وكان قريبا من منزلنا ونادت بأعلى صوتها على والدتي رحمها الله "يا مهرية يا امهرية راني سمعت اسم محمود في الرّاديون".
كنت مغرما جدّا بالاستماع الى الإذاعات، ووجدت فيها البديل عن المجلاّت وكتب المطالعة التي افتقرا ليها، ولم تكن متوفّرة في قريتنا.
وولّد عندي حب الاستماع الى الإذاعات، والاستماع الى كبار المذيعين يقرأوؤن نشرات الاخبار أو يقّدمون البرامج رغبة كبيرة في أن أكون مذيعا فأدخل للعالم من بابه الكبير.
كان يشدّني في اذاعة لندن برنامج "قول على قول" للإذاعي الكبير حسن العكرمي وكذلك برنامج ندوة المستمعين في نفس الاذاعة وبرامج عيسى خليل صباغ أمّا في اذاعة صوت العرب فقد كنت اتابع برنامج "ابجدهوز" للشاعر الكبير فاروق شوشة، وبرنامج "النشرة الفنّية" ومنه تعلّمت كيفية اعداد نشرة اخبارية بالمقدّمة والفواصل وفي اذاعة صفاقس كنت أتابع برنامج "من النافذة" للصديق محمود بن جماعة وهو عبارة عن مجلّة أدبية ثقافية وشاركت في احدى مسابقاته ونجحت، وكذلك برنامج "كنش المذيع" للمرحوم محمد الهنتاتي.
كانت تملأ سمعي اصوات كبار قرّاء نشرات الاخبار في الاذاعات العربية والعالمية مثل أحمد العموري ومحمد قاسم المسدّي ومحمد المحرزي وعبد الحق شريط في الاذاعة الوطنية ومنير شمّا في اذاعة لندن.
كان حب هذه الأصوات والتعلّق بها، يغذّيني لأنّي كنت أريد أن أكون مثلهم وكنت أغلق على نفسي باب احدى غرف منزلنا، وأشرع في تقليدهم، وأنا اقرأ ما يقع بين يدي ورقة من كتاب أو قصاصة من صحيفة او مجلّة قديمة... وعندما لا أجد لا صحيفة ولا مجلّة، أذهب الى خزانة كتب عمّي وكرّاساته القديمة واشرع في قراءتها وعمّي كان له حظ جميل وكنت لا أجد صعوبة في قراءة ما كتبه خصوصا المحفوظات في كرّاس جميل صقيل ويعض ما كان عنده من كتب مطالعة مثل كتاب الايّام لطه حسين وبعض كتب جبران خليل جبران" وسلسلة الروائع لفؤاد أفراد البستاني.
وكنت أعدّ بنفس ما يشبه نشرات الأخبار وأكتبها على ورق كرّاس ثم اشرع في قراءتها مقلّدا كبار المذيعين الّذين كنت استمع اليهم في الاذاعات واشتري لي والدي رحمه الله آلة تسجيل صغيرة وكان معها لاقط صوت "ميكروفون" فكنت أجري بواسطتها حوارات مع افراد عائلتي ولم اكن قد بلغت من العمر وقتها ثمانية عشر سنة.
الى اللّقاء في الحلقة القادمة.
****************************** **
*فضل من كتابي الجديد الذي سيصدر قريبا بعنوان
حياتي في الصحافة من الهواية الى الاحتراف
إرسال تعليق