ثقافة // الإبداع الشّعري في ديوان عُكّاز الرّيح للشّاعر محمّد عبد الله البريكي

ثقافة وفنون//


بقلم : عبد العزيز الهمّامي*




عكّاز الرّيح هو عنوان الديوان الشّعري الصّادر عن دائرة الثقافة بالشّارقة للشّاعر
محمّد عبد الله البريكي وهو يضمّ 32 قصيدة بعضها من اللون العمودي وبعضها من شعر التفعيلة ولكنّ الّذي يستدرجنا للغوص في خبايا هذا الدّيوان واستجلاء كونه الشّعري هو جماليّة النّص الذي يرتقي إلى أفق الدّهشة ويضرب في مسافات شاسعة من البهاء من ذلك أنّ عكّاز الرّيح الّذي رأى النّور منذ أشهر يمثّل في تقديري علامة فارقة في الشّعر العربي الحديث. و قد يعود هذا بالأساس إلى تجربة الشّاعر اللّافتة والموغلة في العراقة والى حرفيّته العالية التي جمعت بين قوّة الموهبة وعمق الثقافة والقدرة العجيبة على تطويع اللغة وابتكار الصّورة الشّعرية الأكثر عمقا وكثافة وجمالا والتي تشدّ المتلقّي شدّا وتستحوذ على الذّائقة وتأسرها .


كما أعتبر أنّ عكاز الريح هو من أجمل وأحلى الدّواوين الشّعرية العربيّة الذي حمل في طيّاته نبرة الذّات المتوهّجة في أحاسيسها ومواقفها وفي مدّها وزجرها وفي امتدادها الانساني النّبيل الذي يرمّم الجراح ويحنو على الأوجاع ويهطل مع الغيم فتتحوّل القصائد الى أيقونات بديعة تضيئ التّراب وتصنع الحياة وتفتح نوافذ الحبّ

كَمَا حَـمَلَتْ رُوحِي كِـتَـابًا مُبَعْثَـرَا

أَجِيئُ وَلَكِنْ أُبْصِرُ الجَمْرَ أَخْضَـرَا



كَبِيرٌ بِغُصْنِ الحُبِّ طَيْــرِي كَـأَنّـهُ

يَحُطُّ عَلَى الغَيْمَاتِ لَوْ كَانَ أَصْغَرَا



وَلَكِـنَّ دَمْعِـي كُلَّمَا طحْـتُ قَالَ لِي:

تَوَكَّأْ وَخَـذْ جُرْحِي يُسَطِّرُ مَا جَرَى

ويتألّق الشّاعر في دائرة الضّوء حيث ينأى بشعره عن غبار النّظرة الايديولوجية ليكون صوتا شعريّا نقيّا وشفيفا يحتفي بالحرف ويبحر في أعماق اللغة ليلتقط جواهرها العائمة ويمنح قصائده تلك الأجنحة السّحريّة التي تحلّق به عاليا في أقاصي التّخوم والمجرّات حيث الينابيع السّخية التي تشفي غليل القارئ وتنعـش حواسّه الماديّة والمعنويّة

مَنَـابـِعُ عِـــزٍّ كُـلَّـمَـا سَــالَ مَـاؤُهَـا

عَلَى شَـارِعٍ فِي مَوْطِنِ الرّوحِ جَـدَّدَه



عَلَى ضَوْئِهَا المُـمْـتَـدِّ أُلْــقِـي تَحِـيَّـةً

لِتُصْـبِحَ فِي اللّحْـنِ البَـدِيــعِ مُـغَــرِّدَةْ

انّها الرّؤية الشّعريّة الواعية التي تمتح من نبوءة الرّوح المتوهّجة ومن حقائق الوجدان لتمارس فنّ التّخييل الذي يعطي للقصيدة لونها الدّافئ ونكهتها العاطرة ويعود بها إلى براءة الطّفولة حيث ترتمي الكلمات في أحضان نجمة مؤتلقة وتُزهر حقولا من الورد على شرفات السّحاب ويظلّ الشّاعر على قارعة الشّوق يرتّب ألحانه ويستحضر أحلامه التي تأتي من البحر

عَلَّقْتُ عَلَى شَمّاعَةِ هَذَ اللَّيْل قَميصًا

فَاحَتْ مِنْهُ عُطُور الشَّوْق

وَرَتَّبْتُ فَسَاتينَ الأَلْحَان

فَالفِكْرَةُ يَخْدشهَا السَّيْل

لِذَلكَ أَحْضَرْتُ الفُرْشَاة لأَحْلام

تَتَمَايَل نَحْو البَحْـر

وَأحيَانًا للشَّارعِ

حَيْثُ تَفُوحُ القَهْوَةُ فِي المَقْهَى

ويمضي شاعرنا في ظلّ هذه الرّائحة الذَّكيّة في حوار دائم مع قصائده الرّاقية التي تنعطف على الواقع الاجتماعي وتتحدّى شجن الأيّام وغربة التّيه بمضامينها الحداثيّة التي انفلتت من عباءة اللّون المعتاد وتميّزت بعمقها وكثافتها وايحاءاتها وبما اتّسمت به من ايقاع متفرّد ومن استخدام جميل لأدوات الكتابة الشّعرية من مجاز وانزياح واستعارات

وَمِنْ أَيْنَ جِئْتُ الاَنَ ؟

لاَ أَتَذَكّـرُ

فَكُلُّ دُرُوب التِّيه فِي الرُّوح تَعْبُرُ

أُخَبِّئُ عَنْ كُلِّ الشَّوَارِعِ لَوْعَتِي

وَدَمْعِي

عَلَى خَدِّ الرَّصِيفِ مبَعْثَرُ

تُقَشِّرُ لِي الأَيّامُ أَحْلاَم غُرْبَتِي

وَشَوْقِي عَلَى الشُّطْاَن أَيْضًا مُقَشَّرُ

ورغم ذلك فانّ عكّاز الرّيح يحمل في ضلوعه أطياف النساء حين ينضجن في مواسم الضوء والبهاء ويتحوّلن الى قناديل خزفية وقصائد عشق في عيون المحبّين وفي رؤية فريدة وباذخة من شاعرنا الّذي يضع المرأة بكلّ محاسنها في مملكتها السّاحرة حتّى تعيد التوازن الى الأشياء فهي الملاذ وهي الضّوء وهي الحياة وهي قلب الرّجل

النِّسَاءُ قَنادِيلُنَا الخَزفيّة

فِي اللَّيْل

يَقْطُرْنَ فَوْقَ الظَّلاَمِ نَدى

وَيُبَلِّلْنَ شُبّاكَ أَحْلاَمِنَا

بِالسُّؤَال

النّسَاءُ خُشُوع ُ المُرِيدينَ

فِي معْبَدِ الشَّوْقِ

يَأْسُرُهُنَّ التَّبَتُّلُ

يَعْشَقْنَ طُولَ التَّهَجُّدِ

فِي دِلِّهِنَّ

وَيَسْكُنُ فِي قَلْبِ صَبٍّ

يَجُرُّ الخَيَـال

النّسَاءُ قَصِيدَتُنَا

وَهْيَ أُنْثَى

وَفَارِسُهَا لاَ يَهُزُّ لَهَا رَأْسَ

رَغْبَتِهِ

وَهْيَ فَاقِدَةٌ للِدّلاَل

النّسَاءُ قُلُوبُ الرّجَال

لِذَلِكَ لَنْ يعْمرَ القَلْب أَرْضًا

بِدُونِ نِسَــاءْ

هذا هو النّغم النّاعم على أوتار هذا الشّاعر الّذي انخرط في وجوده وأدرك جيّدا تضاريس الحياة وتعلّم من أمّه ذات يوم كيف يعلّم الأصابع عزفها من أجل أن ينعم بالضّوء والورد

تُعَـلِّمُـنِي أُمّـي بِأَنَّ أَصَـابِـعِـي

اِذَا جَرَحَتْ وَرْدًا طَرِيًّا سَيَفْسُـدُ



لِذَلِكَ عَلَّـمْـتُ الأَصَابِعَ عَـزْفَهَـا

وَعَلَّمْـتُ ضَوْئِي كَـيْـفَ يُــولَــدُ

كان هذا الشّاعر و لا يزال مسكونا بإبداعاته الشعريّة المتفرّدة ملتحفا بثراء معجمه الشّعري متمسّكا بقصيدة المعنى وبأشعاره المتحرّكة التي تتدفّق في الرّاهن اليومي حينا وتنساب في المطلق أحيانا أخرى حيث يجري الشّعر حاملا على كتفيه همّ الأرض وموقف الشّاعر

أَتَيْتُ أَحْمِلُ هَمَّ الأَرْضِ مُكْتَفِيًا

بِمَا سَتَكْشِفُهُ الأَيّامُ مِنْ شَغَفِي



فَقَدْ أَغِيـبُ طَوِيلاً دُونَمَا هَــدَفِ

مِنَ الغِيَابِ وَقَدْ أَتَى وَلِي هَدَفِي

وهكذا فان الشّاعر محمّد عبد الله البريكي من خلال ديوانه الجديد عكّاز الرّيح أو من خلال أعماله الشّعرية السّابقة يظلّ يمثّل رافدا مهمّا من روافد الحداثة الشّعرية وقامة يافعة في تاريخ الشّعر العربي المعاصر فهو الذي بدأ مع البحر واستطاع أن يجدّف في كل المحيطات ويرفرف عاليا فوق الأمكنة وأن يمتشق الكلمة المضيئة الوارفة التي تفجّر ماء البهاء وتجعل القصيدة واحة الموسيقى وعنوان الجمال وأحلى النّساء



قَالَ لي :

القَصْيدَةُ لَيْسَ لهَا

أَيُّ خَيْطٍ يُعَلّقُهَا بِالسَّمَاءْ

قُلْتُ :

اِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ ايمَانُنا

بِالعُلُوّ المُحَلِّقِ

يَكْفِيكَ تُؤْمِنُ

أنَّ القَصِيدَةَ

أَحْلَى النِّسَاءْ



  



  
                                                                           

comments

أحدث أقدم