بين سجنين قصة للكاتبة منيرة جوادي



ابداعات جديدة




قصة قصيرة

الكاتبة: منيرة جوّادي

بين سجنين...

كان الشارع طويلا، طويلا جدا... لقد بات مُمِلًا بأعمدته الخشبية القديمة و مصابيحه الباهتة و رائحة الجفاف و الفقر التي تفوح من نوافذ الخشب المُغبَرَّةِ...
أعوام من عمر محمد أُحرِقَتْ بين جدران السجن...
سار في اتجاه الشّاطئ، وهو يُحاول أن يُفرغَ صندوق الذّاكرة المسجور بالظلم و السباب و مقتطفات جائرة من كلام القاضي..." ليت ما كان لم يكن... خناجر الظّلم لازالت تُبكيني ليلا كالأرامل..."
و انهالت عليه ومضات الماضي تُعيد تدوين ما حصل في تسلسل محكم... عتبة الرّخام و رأس جميلة المُتشظّي و الطّلقات المتكررة و يداه المكبّلتان ظلما... لا زال، بعد كل تلك السنين، عاجزا عن تشريح ما حدث... من خطّط لذلك اللقاء؟ كيف يتحوّل السبّاك البريء في لحظة إلى قاتل؟ ... جميلة، العارضة المشهورة، ما علاقته بها حتى يُنهي حياتها؟
بلغ الشاطئ. كان غاضبا حزينا كغضب محمد... قرّر أن يقتُل الماضي... لا بدّ أن يرحل إلى أرض أخرى... بين البحر و روما تنمو أحلامه بأيام بلا كدر... ربّما هناك ينسى السّجن... رحلة غير مشروعة مع وجوه تحمل الكثير من البؤس، لكنّها مرّتْ بسلام رغم اهتراء القارب...
لم تكن حياته في روما يسيرة، لكنّه كان مرتاحا... لا أحد يُشير إليه في الطرقات و أمام المحلّات، و لا أحد يهرب هلعا حين يراه مُصادفة... بات غريبا ، لكنّه لا يُخيف أحدا... أمّا الحكايا عن الرّخاء و ملاعق الذّهب التي تزور أفواه المُغتربين فيتحولون إلى أثرياء فقد اكتشف أنها مُجرّد إغراء لا أكثر... لكنه لم يكترث. كان كل ما يهمه عيون الناّس... هنا العُيون لا تعْرفه، و لا تتّسع اندهاشا حين تراه...
و استمرّ الهدوء مع صاحب حقول البندورة، الذي شغّله ناطورا على ضيعته...
لكنّ صوت الطّلقات خنق الفضاء مُجدّدا، و جرى دم أنطونيو صاحب الضيعة عندما كان محمد يقف إلى جانبه...
كُبّل مرة أخرى، و اقتيد إلى سجون إيطاليا ظلما...
الغموض هنا أكثر قتامة... محمد الغريب بات سجينا على الأرض التي تخَيّلها انعتاقا...
كانت القضبان تُلاحقه أينما حلّ...

comments

أحدث أقدم