مباحث ثقافية
مجلة المباحث رائدة المجلات الثقافية في تونس في مرحلة الثلاثينات من القرن الماضي
مجلة فكرية التقت على صفحاتها ابرز الاقلام والكتاب التونسيين رغم عمرها القصير
بقلم الدكتور محمود حرشاني*
نتصفّح معا، مجلة المباحث، هذه التي كانت محملا ثقافيا وإعلاميا مهما، وقامت بدور كبير في جمع شمل المثقفين والمفكرين والكتاب التونسيين، والتقى على صفحاتها أبرز هؤلاء الكتاب الذين كانوا يثرون المجلة بإنتاجاتهم المختلفة، في القصة والشعر والترجمة والمقالة الأدبية.
- مؤسس مجلة المباحث ومديرها هو الأستاذ محمد البشروش، الذي يعدّ رائدا من رواد الثقافة والصحافة في تونس.
- صدر العدد الأول من مجلة المباحث في ذي الحجة سنة 1356 هجرية الموافق لشهر جانفي 1938، وبعد شهرين صدر العدد الثاني من هذه المجلة في محرم 1357 الموافق الموافق لشهر مارس 1938، وقد كان جهد مؤسسها ومديرها واضحا في العددين، كتابة وإخراجا وتمويلا.
في بداية صدورها، اتخذت المجلة من مسقط رأس مديرها المؤسس، مدينة الحمامات، عنوانا لها. فقد جاء في أعلى صفحتها الأولى، فيما يتصل بالعنوان المراسلات تكون باسم رئيس التحرير محمد البشروش بالحمامات، بلدة الحمامات المملكة التونسية.
- صدرت مجلة المباحث أول مرة في عشرين صفحة وحافظت على هذا العدد من الصفحات في أغلب الأعداد التي صدرت منها بعد ذلك.
- قدمت المجلة نفسها منذ عددها الأول إلى القراء على أنها مجلة متخصصة في الأدب والفن والتاريخ والفلسفة. وقد كانت تطبع بمطبعة العرب لزين العابدين السنوسي، وكان ثمن النسخة الواحدة منها ثلاث فرنكات.
- احتوى العدد الأول من مجلة المباحث على مجموعة من المقالات والدراسات والإنتاجات الأدبية الجديدة.
- وقد جاءت محتويات هذا العدد الأول من مجلة المباحث على النحو التالي:
- شخصيات تونسية، تعريف بشخصية المصلح التونسي البشير صفر بمناسبة إحياء الذكرى العشرين لوفاته في فلسفة الفن، مقال بعنوان الفـن
والسلطة، مقال للشابي لم ينشر، الفنون والنفس العربية في التربية، دروس المحفوظات، قصة العدد، وقد وردت بعنوان فنان وكتبها محمد البشروش وأخيرا قصائد متفرقة وتعريف بالإصدارات الجديدة ضمن ركن ثمرات المطابع.
- ونفهم من هذا العرض لمحتويات وأركان العدد الأول أن المجلة كانت متنوعة الاهتمامات حريصة على إفادة القارئ بكل ما يستجد في الساحة الثقافية والأدبية، وهو ما عكسته افتتاحية العدد الأول التي جاء فيها ما يلي:
- سيدي القارئ، هذا أول عدد من المباحث بين يديك، وقد أسسنا هذه المجلة لتساهم في تبليغ رسالة الأدب، فمن أجل الأدب فقط أسسناها. وهي لا تعني بخدمة مذهب محدود سواء من الفلسفة أو الفن أو التاريخ أو غيرها من أنواع الأدب، ولكنها عند كل رأي وكل مذهب حي هو للفن يمتّ بصلة الرحم والقربى، وهي تخدم الثقافة عصارة تغنى الإنسان، وعقله بمفهومها الأشمل ومدلولها الأتم. وهذا بوسائلنا المتواضعة وبوسائلنا المتواضعة دائما، سنعني عناية خاصة بالبحث عن تاريخ الحياة العقلية بهاته البلاد، في أي عصر كانت قديما وحديثا، وجمع شتاتها المتناثرة الضائعة، تحت ركام من غبار الإهمال.
ويواصل كاتب الافتتاحية يقول :
وقد اصطفينا من كبار أدبائنا نخبة تتعاون معها في هذا السبيل، وأملنا أن نؤدي رسالتنا الثقيلة المرهقة أتمّ أداء وهذا واجب علينا. وواجب القارئ أن يعذر سعينا، فلا يبخل على المباحث بالتشجيع.
ضمن ركن شخصيات تونسية، اهتمت مجلة المباحث في عددها الأول، بتقديم وصف لما دار في حفل إحياء ذكرى مرور عشرين سنة على وفاة المصلح البشير صفر، وقد أقامت هذه الذكرى الجمعيات الثقافية التونسية في أواخر السنة المدرسية 1937.
وقدمت المجلة في هذا المقال عرضا لمسيرة هذه الشخصية التونسية الفذة، أي شخصية البشير صفر الذي ولد بتونس يوم 27 فيفري 1865، ووالده هو الجنرال مصطفى صفر، وهو أحد أبناء مدينة المهدية، وبعد أن تلقى تعليمه بجامع الزيتونة التحق بالمدرسة الصادقية، وفي هذه المدرسة ظهرت مواهبه وأعجب به أساتذته ومنهم الوزير خير الدين الذي كان لا يبخل عليه بالتشجيع.
- وتتتبع الدراسة التي وردت بإمضاء مدير المجلة محمد البشروش مختلف مراحل تفوق ونبوغ الشاب البشير صفر وإسهامه في الحركة الأدبية والثقافية وتأليفه لمجموعة من الكتب ومنها كتاب مفتاح التاريخ وكتاب الجغرافيا إلى جانب ما كان يلقيه من محاضرات يضمنها آراءه الإصلاحية في المجالات التي تهم مسيرة المجتمع، كمجال إصلاح التعليم وتحسين ظروف عيش السكان التونسيين، وتحسين الحالة الاقتصادية للبلاد وغيرها من المسائل.
- وتعتبر المجلة في هذا المقال، أن البشير صفر بما قدمه لأمته، وبما كان يصدع به من آراء جريئة وشجاعة، أحد المصلحين التونسين الكبار الذين انبنت على جهودهم نهضة الأمة التونسية.
- لا تخفى على أحد العلاقة المتينة التي كانت قائمة بين صاحب المجلة الأستاذ محمد البشروش وشاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي، فقد كانا صديقين حميمين وكانت بينهما مراسلات عديدة وتبادل لإنتاج فكري وثقافي وأدبي. ولهذا لا نستغرب أن نجد أبا القاسم الشابي ضمن أسرة المجلة والمساهمين في تحريرها... وأمام الصعوبات التي اعترضت صاحب المجلة عندما كان يسعى إلى إصدارها لم يتوان الشابي في مؤازرة جهود صديقه البشروش.
- وهذه المؤازرة نفهمها من خلال مساهمة الشابي في العدد الأول من المجلة. وقد ورد مقال الشابي بعنوان "الفنون والنفس العربية" وقد أوردت المجلة هذا المقال ضمن ركن مقال لم ينشر للشابي.
- وربما يكون هذا المقال هو فعلا من المقالات غير المعروفة للشابي.
- وقد تناول الشابي في هذا المقال أهمية الفن في صقل شخصية الفرد ونبوغه. ودافع الشابي في هذا المقال عن وظيفة الفن كأداة لرقي المجتمع وتواصل الحياة، متصديا بشجاعته المعهودة لأصحاب العقول المتزمنة الذين يرون في الفن ملهاة تعوق المجتمع عن التقدم.
- وفي هذا العدد الأول من مجلة المباحث نطالع مقالا بعنوان الطب العربي بتونس، وفي ركن التربية نجد مقالا حول طريقة تدريس المحفوظات أما قصة العدد فقد وردت بعنوان فنان، وقد جاءت بإمضاء مدير المجلة محمد البشروش.
- وبعد شهرين من صدور العدد الأول، صدر العدد الثاني من مجلة "المباحث" في شهر مارس 1938، وجاءت مواضيع هذا العدد متنوعة تجمع بين البحوث التاريخية والدراسات الاجتماعية والفلسفية والتراجم والإنتاجات الأدبية الجديدة. وتقديما لمحتويات معرض الرسم للفنان يحي التركي كما نطالع في العدد أخبارا أدبية متفرقة.
- وإثر عددها الثاني تتوقف مجلة المباحث عن الصدور لصعوبات مادية اعترضت صاحبها، ولا تعود إلى الساحة إلا في شهر أفريل 1944 وبعتبر هذا العدد مرحلة جديدة في مسيرة المجلة تتضح سيماتها فيما يلي : تكوين هيئة تحرير قارة للمجلة، تضم نخبة من الكفاءات التونسية، نجد من بينهم الأساتذة محمود المسعدي، نورالدين بن محمود، الطاهر الحداد، عبدالوهاب بكير، مصطفى خريف. وأصبح للمجلة مدير تحرير وهو السيد فتحي الزليطي.
- وفي العدد الثالث وردت عديد المقالات والدراسات ومنها مقال بقلم الأستاذ محمود المسعدي وقصيد لمصطفى خريف وآخر للطاهر الحداد وقد تحولت المباحث إلى منبر أدبي وثقافي كان ينشر على صفحاته ما تجود به أقلام المفكرين والمثقفين التونسيين.
- يذكر الأستاذ جمعة شيخة، عندما كان مديرا لدار الكتب الوطنية، في المقدمة التي وضعها، لتقديم المجموعة الكاملة من مجلة المباحث التي أصدرتها دار الكتب الوطنية.
- مجلة المباحث مرت بمراحل كثيرة، وتنقسم هذه المراحل إلى ثلاث مراحل أساسية في حياة هذه المجلة، المرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس التي ذكرنا اقتصر فيها صدور المجلة على عددين فقط أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة استئناف الصدور بداية من شهر أفريل 1944. أما المرحلة الثالثة فهي تبدأ من العدد التاسع الذي صدر في شهر ديسمبر 1944 ويرى الباحث أن هذه المرحلة هي من أدق مراحل مسيرة مجلة المباحث.
- استقطبت مجلة المباحث العديد من الأقلام التونسية المتميزة، كما أقامت المسابقات وأحدثت الجوائز لتشجيع الناشئة الأدبية، كما أصدرت مجموعة من الكتب كمنشورات تابعة لها، ومنها كتاب ثورة الفكر لعلي البلهوان وأصول الخبر وخلاصة الحساب لمحمد سويسي ودروس في الكيمياء للبشير قوشه.
- وفي مجال تشجيعها للمواهب الأدبية نظمت مجلة المباحث مرتين جائزة المباحث الأدبية في عددها الثاني والعشرين من جانفي 1946 وفي عددها الحادي والثلاثين والثاني والثلاثين الصادر في أكتوبر / نوفمبر 1946.
- تداول على رئاسة تحرير مجلة المباحث عدد من كبار المثقفين التونسيين، وكان أول رئيس تحرير لها هو الأستاذ محمود المسعدي بعد وفاة صاحبها. وعبدالوهاب بكير وتولى رئاسة قلم التحرير لما سافر الأستاذ محمود المسعدي إلى فرنسا للمشاركة في مناظرة التبريز، وأحمد عبدالسلام الذي أشرف على رئاسة التحرير بالنسبة إلى الأعداد الأخيرة من المجلة. كما نجد من بين كتابها البارزين كلا من الأساتذة الفاضل بن عاشور والشابي ومصطفى خريف ومحمد الحليوي، وعلي البلهوان، وعبدالله شريط، والطاهر قيقة، ومحمد بورقعة، وحسن حسني عبدالوهاب، والباهي الأدغم والصادق المقدم، مما يدل على مكانتها الرفيعة في الساحة الأدبية والثقافية.
-------------
كاتب وصحفي اول
مدير مجلة مرآة الوسط التونسية وقمر تونس
إرسال تعليق