حين يصبح الارهاب موضوع الرواية بقلم الدكتوره لطيفة لبصير كاتبة وروائية. المغرب

م


مقال  خاص




حين يصبح الارهاب موضوع الرواية



بقلم الدكتوره لطيفة لبصيركاتبة وروائية. المغرب



يشهد العالم بأسره تحولات في الأمن، ومن الطبيعي جدا أن يتأثر الابداع بأسره بكل ما يعرفه العالم من عنف وارهاب وانتحار جماعي، فنجد العديد من الاشكالات تعود للواجهة ويطرحها الابداع برمته ويسائلها. من هنا لا بد من أن نسائل فكرة التخييل والواقع، اذ أصبح لزاما على التخييل أن لا يغض الطرف عما يحدث الآن في كل البلدان، ولا بد أن الرواية هي أيضا عرفت هذا التحول المفاجىء للحديث عن كل أشكال العنف التي هيمنت حاليا، فهي كجنس أدبي يعرف تحولات عديدة، من الانغلاق على الذات الى الاتفتاح على المجتمع، تظل مؤرخة للأحداث والأفكار أيضا.

التخييل استبق الواقع:

تنبأت العديد من النصوص الروائية بما سيحدث فيما بعد من عنف وارهاب، فرواية الشياطين لدوستويفسكي كانت بمثابة النص الذي تنبأ بواقع الارهاب والعنف والدم الذي ستخلفه الثورة البلشفية، ورواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، كانت أيضا تنبىء بانهيار الأنظمة العربية من خلال أبطالها الذي عاشوا تمزقا بين الأوطان وصعوبة التوافق مع مجتمعات تضمر ازدواجية في الأخلاق والدين.

حملت العديد من النصوص الروائية نبوءة خاصة لما يحدث الآن من أشكال العنف والارهاب، وهو ما يجعلنا نستوقف عند الفكرة التي تجعل الأدب يستبق واقعه، وهي فكرة حقيقية، فالكثير من الابداعات تنبأت بنهايات مأساوية أو استشعرتها، ولكن هناك اشكالات أصبحت اليوم مطروحة بقوة على الأدب، وهي أن يتحدث الأدب أيضا عما حدث من أشكال الارهاب، وأن يحاول صياغته بطرق أخرى بهدف معين.

روايات تخييلية أم مذكرات سير ذاتية:

أصدرالروائي والفنان التشكيلي ماحي بينبين روايته"نجوم سيدي مومن" سنة 2010 ، وهي رواية مستوحاة من الأحداث التي شهدتها مدينة الدار البيضاء سنة 2003 ، وقد كان هذا الحدث الارهابي بمثابة صدمة لكل ساكنة المغرب الذين كانوا يعتبرون أن المغرب هو بلد بعيد جدا عن الحالات الانتحارية.

تقدم رواية "نجوم سيدي مومن" على لسان ساردها نوعا من المذكرات لصوت يتحدث من العالم الآخر، وكأنه يسرد علينا ما بعد الحدث، وبطريقة أشبه ما تكون محكيا لواقع معين مفرط في واقعيته وكأنه يحكي الأشياء بتفاصيلها الدقيقة.

يستهل السارد المحكي من خلال تأثيث فضاء معين هو العيش في سيدي مومن، بحيث أن السارد هنا هو صوت يوجه المتلقي تجاه فكرة معينة لا يضع عليها الأصبع بوضوح، ولكنه يشير اليها من خلال قرائن عدة، اذ لا يكفي أن نصل الى نعت الارهابي كذلك، بل أن ننظر الى واقعه الخاص، وبذلك تكون الرواية قد صاغت أهدافها في خلق قارىء معين.

يبدو المكان هامشيا وببنية هشة يعكس الفقر، وبسخرية أحيانا على لسان السارد وهو يقول: أمي تحطم الرقم القياسي في الانجاب، بحيث حملت في أربعة عشر طفلا وكلهم ذكور، ولولا موت بعضهم لشكلنا فريقا لكرة القدم..."ويمضي السارد في الحديث عن المكان برمته، بحيث لا يتسع لاخوته في السكن، وهذا ما يجعله يحلم بغرفة خاصة فقط كأقصى حلم في حياته.

هويات مشروخة:

قدم لنا السارد هويات ممزقة، فقد كان أبناء حي سيدي مومن يحلمون بخلق الحدث وذلك بأن يصيروا فريقا لكرة القدم يحمل اسم نجوم سيدي مومن، لكنهم أصبحوا نجوما من نوع آخر، لكون هوياتهم مشروخة منذ النشأة الأولى، فحميد أخ السارد كان منذ البداية يمثل الجانب الثائر، الذي يلجأ الى العنف بسهولة، والطفل علي الذي غرق في النهر، فحمل الأب ذنبه لأخيه يوسف، واتهمه بجريمة عاشت معه طوال عمره، بل سماه باسم أخيه فأعدم شخصيته ومحاها للأبد، بقوله: "جريمتك ستلاحقك حتى الجحيم"، نبيل وولادته كابن غير شرعي، وأمه طامو العاهرة التي اصطادت سائق سيارة أجرة ونسبت اليه ابنها نبيل الذي يلقبه الكل بابن العاهرة الى غيرها من الشخصيات.

يقدم النص الروائي ضمن بنياته اللاواعية شخصيات مجتمعية منهكة من الأسرة والمحيط الاجتماعي، وهي بذلك تلتجىء الى الحشيش والرقص والخلوة وكانها تعالج القهر الاجتماعي بكل الأشكال التي تخلق لها البهجة هروبا من واقع يتيم.

جثة في الدولاب:

يبدو أن كل ساكنة سيدي مومن لها جثة في الدولاب، أو جسم سيتلاشى عما قريب، وهذا من الأشياء التي تحبل بها الرواية، فهذا المحكي الذي يسرده السارد يقدم للعالم بصوت داخلي استبطاني كل أشكال القهر الداخلي والخارجي التي يعاني منها مع رفاقه في سيدي مومن، والذين لم يكتب لهم أن يكونوا نجوما في أي شيء، وعوض المعرفة والتدريس يهيمن الجهل، ويتشكلون مثل أجسام قابلة للانفجار في أية لحظة، ولذا فان الفراغ الذي تخلقه الأوضاع الاجتماعية يعوضه أي شكل من أشكال الحلم بحيث وقع التحول حين جاء أبو زهير كوازع ديني أخلاقي يأمر وينهى وبدأت العديد من الأشخاص تعدو وراءه، بل تحول حميد االى شخص يؤدي الصلاة وأصبح يرى فيه الملاك الحارس الذي يغير كل أفكاره ويشحنه بأحلام كبرى بمعية رفاقه، وكأنهم سيعثرون على تذاكر للجنة.

يقول الكاتب على لسان السارد: هذا الطريق أخذنا الى الموت، موتنا وقتل أقربائنا... والذي لا يحتوي سوى على الندم، الوحدة والانعزال".

لا شيء قد تغير:

بعد الانتحار الجماعي وقتل الآخرين، ينظر صوت السارد من العالم الآخر وكأنه يرى أن لا شيء تغير، والحياة تبدو عادية، ولكن السارد نجح في أن يؤثر علينا كقراء للعمل، اذ حول لنا شخصيات منتحرة تؤذي الآخرين الى ضحايا، وأن يرصد كل تحولات الشخوص وكأنه يجري علينا تحويلا نحن أيضا.

حين ننتهي من قراءة الرواية نجد أن الجلاد قد تحول الى ضحية في العمل، وهو ما يجعلني أستحضر العمل النقدي لببير بايار:"هل كنت سأكون مقاوما أم جلادا؟" والذي يراهن فيه على اشكالية كبرى تتمثل في طرح أساسي: هل اذا عشت ظروفا غير آمنة، هل كنت سأصير جلادا أم مقاوما؟

يبدو أن الرهان الذي راهنت عليه رواية نجوم سيدي مومن هي أن تسعى الى خلق قارىء يؤمن بأن الظروف هي التي حولت الضحية الى جلاد، وفي النهاية هم ضحايا أعدموا أرواحهم دون حتى أن يعرفوا مآل ذلك، فالسارد يطل على سيدي مومن من أعلى ويراها لم تتغير بعد التضحية بالأرواح.

وقد طرحت الروائية josette elayi في روايتها: "لماذا أصبحت انتحاريا؟" التي صدرت سنة 2017 هذا الاشكال أيضا،ولكن من زاوي أخرى، فبطل الرواية هو ابن أسرة ميسورة، وقد جعلت الانتحاري هو الذي يسرد كل مغامراته الانتحارية، وذلك لفهم ما يدور بخلده قبل تطبيق العمل الانتحاري، مؤكدة في البداية بأن العالم الذي نعيش فيه يتجاوز أي تخييل، فقد أصبح عالما متناقضا تتمازج فيه الحضارة والبربرية.

شاءت الظروف أن يكون بطل الرواية بالقرب من انفجار يحدث في فندق، فيعمل على انقاذ طفل كانت أمه تصرخ ويأخذه الى المستشفى، الى أن تحمله الصدف أيضا على لقاء شابة فائقة الجمال اسمها دولوريس قبلته بعنف حين دخل رجال الأمن السري الى المقهى، وغرق منذ ذلك اليوم في القبل والحب ولم يستطع التخلص من أسرها، في حين تتعرض خطيبته التي كان ينوي الانفصال عنها لانفجار على اثر طرد فتحته بالخطأ كان الغرض منه قتل أبيها لأنه امتنع عن أداء ضريبة اجبارية لمنظمة ايتا التي أصبحت تتعسف على بلاد الباسك، وتريد أن تحقق عدالتها بالاجرام والعنف والارهاب...تحدث اعاقة جسدية لخطيبته بينما هو غارق في الحلم بالسيدة التي امتلكته في لحظة من الزمن ولم تكن هذه السيدة سوى عضو في المنظمة الارهابية ايتا...

ان رغبة الكاتبة في الحديث بصوت داخلي مردها الى أنها كانت تسعى الى أن تسمعنا الشخصية وهي تتحول من انسان هادىء تماما الى شخص ارهابي، يذهب الى التدريبات القتالية وتتغير حياته تماما.

حين نتأمل الوضع البشري لا نجد رغم ذلك تفسيرا للقتل والعنف رغم كل الظروف التي تأسر الأفراد، وهو اشكال يظل مطروحا دوما،وقد طرحته الكاتبة نفسها، بصوت آخر: فيم كان يفكر الانتحاري ساعة الانتحار؟ هل كان يفكر في الآخرين الذين سيصيرون جثثا هامدة؟ هل كان يفكر ساعتها في الضغط على المتفجرات؟ هل كانت المسألة بالنسبة اليه تقنية فقط؟

الارهاب أصبح موضوعا أساسيا للرواية لأن الأحداث الدموية تتزايد في كل يوم عبر العالم، ومن الضروري أن يحاول الابداع نفسه سبر أغوارها ومعرفة ما يكمن في النفس البشرية من أهوال هو نفسه يجهل مصدرها.

--------------------------------------

قدم هذا البحث في ندوة. قضايا الارهاب في الرواية العربية
في اطار الدورة 27 لمهرجان مرآة الوسط الثقافي
سيدي بوزيد . تونس
اكتوبر 2017

comments

أحدث أقدم