كان في ذلك الصباح على موعد مع مسؤول كبير في
واتجه نحو مقهى انترناسيونال المقابل للمسرح البلدي،
لن يمكث طويلا في المقهى، يشرب قهوته بسرعة مع
قطعة من الكرواسون، ثم يغادر باتجاه و ازرة الشؤون
الثقافية حيث ينتظره أحد المكلفين بمهمة في ديوان
الوزارة.
لم تكن الحركة كثيفة في شارع الحبيب بورقيبة في تلك
الساعة، ما عدا بعض الذين كانوا يعبرون بسرعة باتجاه
الإدارات التي يعملون بها، حتى المقهى بدا شبه فارغ..
جلس في أطرف المقهى في المبنى الخارجي وطلب قهوة
الحليب وقطعة الكرواسون من النادل الذي كان يجلس
على الكرسي القريب منه، أنهى احتساء قهوته بسرعة
وغادر المقهى...
لا شك أن الزقاق المؤدي إلى جامع الزيتونة ومنه إلى
القصبة حيث مبنى وزارة الثقافة و وعدديد الوزارات الأخرى
على طول شارع باب بنات، هو خاليا الان من المارة،
على غير ما يشهده في ساعات الذروة من اكتظاظ.
فعلى
جانبي الزقاق تنتصب دكاكين باعة الأواني النحاسية
والملابس التقليدية والعطورات والبخور، وهذا النهج يشهد
اكتظاظا كبيرا خاصة ما بعد الحادية عشر ة صباحا حيث
يصبح المرور عبره صعبا للغاية. سلك الزقاق من أوله
وكان من حين لآخر يتوقف أمام المعروضات، فعلى
الأقل في مثل هذه الساعات الأولى من النهار يمكن أن
تتنقل عبر هذا الزقاق المؤدي إلى جامع الزيتونة براحة
يكون هناك ذلك الزحام الشديد عادة في
ساعات الظهيرة، حيث يختلط السياح الأجانب بأبناء
البلد، ويصبح المرور عبر هذا الزقاق من الأشياء
الصعبة جدا.
كان الصباح يتنفس بهدوء وكانت روائح العطور تنبعث
من كل الدكاكين وخاصة تلك التي تبيع العطورات
بأنواعها فتبعث حيوية كبيرة في الجسم ونشاطا غريبا.
وجد نفسه قبالة جامع الزيتونة المعمور، يا لهيبة وجلال
هذا المكان! جامع الزيتونة المعمور يقف شامخا شاهدا
على عراقة وأصالة هذا البلد.. أجيال وأجيال احتضنها
هذا الجامع الذي كان منذ تشييده قبلة القصاد من طلبة العلم
، كانت أسراب الحمام تحلق في نواحي عدة وعلى
مقربة من الجامع وقف رجل يبدو أنه من الطالب القدامى
الذين كانوا يدرسون بهذا الجامع، وقف متأملا مستعيدا
ّ ذكرياته ربما.. وقد
استبد به الشوق إلى تلك األيام،.
اقترب منه وتجرأ على سؤاله :
- يبدو أن خيالك ذهب بك بعيدا ..
- أجابه : يا حسرة.. أحلى سنوات العمر كانت هنا،
داخل هذا الجامع العظيم لم تكن لنا حياة خارجه، كلما
تأملت هذا الجامع كلما هاجت ذكرياتي ومشاعري.
تركه في تأملاته وواصل سيره.
في الطريق إلى وزارة الثقافة مر بأناس كثيرين أمام مبنى
مستشفى عزيزة عثمانة، جاؤوا ربما من أماكن بعيدة
للعالج.
أكمل أنور احتساء قهوته في ذلك المقهى المطل على
أول شارع باب بنات، كانت الساعة تقترب من منتصف
النهار، ر
ّ
قد أن ذلك المطعم الكائن على مقربة من جامع
الزيتونة في المدينة العتيقة قد فتح أبوابه الستقبال رواده،
اعتاد منذ سنوات أن يتناول طعام الغداء في هذا المطعم،
كلما جاء إلى العاصمة، هو مطعم مشهور يطهي
األكالت التقليدية، وخاصة أكلة الكسكسي بالسمك أو لحم
الخروف، وفوق الصحن مع قطعة اللحم أو السمكة
المشوية أو المقلية في الزيت يتمدد قرن الفلفل األخضر
وقد استحال لونه إلى ما يشبه اللون الفضي ج ارء قليه في
الزيت..
كان المطعم يعج بالزوار بين تونسيين وأجانب، كلهم
جاؤوا لتناول وجبة الغداء في هذا المطعم، ومن الصعب
أن تجد مكانا شاغرا خاصة خارج المطعم حيث انتصبت
بعض الطاوالت، لن تظفر فيها بمقعد شاغر إال بصعوبة،
وعليك أن تبحث عن مقعد شاغر في الداخل إذا كنت
محظوظا.
بصعوبة وجد مقعدا في الفضاء الخارجي بعد أن أنهى
أحد الرواد تناول فطوره وقام ليترك له المكان، لم ينتبه
إلى من كانوا جالسين ويقاسمونه نفس الطاولة، فهم من
خالل ما استمع إليه من حديثهم، أنها عائلة جزائرية كانت
تتكون من الزوج وزوجته وابنتهما، عندما جلس بادرهم
بالتحية والسالم، فردوا عليه مرحبين به،، وقال الزوج
مخاطبا إياه :
- مرحبا تفضل.
- شكرا، أرجو ألا ازعجكم
- لا .لا . أبدا، مرحبا .. نحن على وشك الانتهاء.
وأضاف الكسكسي هنا لذيذ جدا في هذا المطعم لقد
تناولت كسكسي بالسمك وتناولت زوجتي كسكسي بلحم
الخروف أما ابنتي فقد تناولت بعض المقليات.. وواصل
أكيد أنها ندمت، لقد فرطت في وجبة من الكسكسي اللذيذ
سواء بالسمك أو بلحم الخروف..
قال لهم : هنيئا.. أرجو أن ينفعكم، وأضاف مثلكم أحرص
كلما أتيت إلى العاصمة، وقادتني الحاجة إلى المدينة
العتيقة على تناول وجبة الغداء هنا في هذا المطعم..
ترون أنه من الصعب أن تظفر على مكان شاغر خاصة
في مثل هذه الساعة.
قال الزوج "نحن من الجزائر، أتينا إلى تونس في سياحة
منذ يومين، ونرييد زياارة الحمامات وسوسة وسيدي
بوسعيد، ونابل المدينة العتيقة رائعة، كم هي جميلة هذه
المعروضات التي يعرضها التجار في محالتهم.. لقد
اشترينا العديد من الهدايا لاصدقاائنا في الجزائر.. ثم أخرج
مجمو عة من الصحون، وقال "أنظر لقد كتبنا أسماءنا
على هذه الصحون الجميلة وتاريخ الزيارة، لنحتفظ بها
كذكرى جميلة عن زيارتنا للمدينة العتيقة، ثم تدارك قائال:
- عفوا صديقي.. شغلتك عن تناول طعام الغداء ال شك
أنك جائع..
كانت روائح البخور والعطور تمأل المكان لتشيع جوا من
االنشراح والبهجة. وعلى مقربة من المطعم، جلس
مجموعة من الرواد أمام المقهى المجاور، وقد انتصبت
أمامهم على المناضد الصغيرة كؤوس الشاي الأخضر
بالنعناع.. والبعض من الرواد كان يداعب شيشته ليخرج
من فمه الدخان كثيفا. في حين كان النهج ال تكاد تهدأ
فيه الحركة من اإلتجاهين.. البعض كان قادما من
القصبة والبعض اآلخر كان قادما من شارع الحبيب
بورقيبة.. وبين غاد ورائح ال تكاد الحركة في هذا النهج،
نهج جامع الزيتونة المعمور، تهدأ للحظة من اللحظات،
وعليك أن تتسلح بصبر أيوب لكي تستطيع الوصول إلى
غايتك والمرور عبر هذا النهج. فالجميع تستهويهم زيارة
المدينة العتيقة حيث محلات بيع الأواني النحاسية
والملابس والصناعات التقليدية والبخور والعطور، والكتب
القديمة والنقش على الصحون والعودة بالهدايا إلى األهل
والأصدقاء. هنا في ثنايا المدينة العتيقة يتجدد الزمن
ويلتحم الماضي بالحاضر في رحلة ال تعرف التوقف.
حاول أنور أن يكتب شيئا يخلد به جالل اللحظة
وروعتها، جلس على الكرسي الذي اعترضه في ذلك
المقهى الذي يطل على نهج باب الجزيرة.. بسرعة كان
النادل بزيه األبيض الجميل يطلب منه ماذا يريد أن يقدم
له.. بعد أن مرر خرقة مبللة على الطاولة التي أمامه..
ووضع فوقها طفاية السجائر البلورية، كان يريد أن يكتب
شيئا.. أي شيء.. سحب ورقة بيضاء من محفظته التي
ال تفارقه والقلم من جيب سترته.. وبسط أمامه الورقة،
التي بدت أمامه أشبه بجزيرة عائمة وسط الطاولة.. من
أين سيدخل إلى هذه الجزيرة؟ أغمض عينيه لبرهة قصيرة
من الزمن لوال أن أيقظته من غفوته تلك، حركة النادلة
الجميلة وهي تضع على الطاولة القهوة التي طلبها ومعها
قطعة من الشوكولاتة.. قالت له بفرنسية جميلة
Bienvenu monsieur
رفع رأسه ليكتشف وجها جميلا باسما، فأجابها : Merci
c'est très gentil
كان يطارد الأفكار التي كانت تمأل رأسه في تلك
اللحظة.. أشعل السيجارة
ّ
الااولى والسيجارة الثانية، هم ان
يطلب من النادلة التي مرت أمامه قهوة جديدة بعد أن
أحتسي القهوة الأولى.. لم يجد الكلمة المفتاح التي يبدأ
بها مقاله.. أصعب الكتابات أن تكتب شيئا عن نفسك..
ماذا تراه سيكتب لو قرر أن يكتب عن نفسه.. فجأة لمعت
برأسه فكرة تغيير المكان لعل ذلك يساعده على المسك
بتلابيب الفكرة الهاربة. نظر إلى الورقة التي كانت
مبسوطة أمامه على الطاولة.. كانت ال تزال بكرا كما
سحبها من محفظته لم يخط عليها ولو كلمة واحدة،
الكلمات كالطيور تحتاج إلى ترويض، لكي تألف المكان.
أين ذهبت أيتها األفكار، لقد كنت تملئين رأسي منذ قليل
وأنا أعبر نهج جامع الزيتونة، كنت أود أن أتوقف في أول
مقهى يعترضني وأسحب قلمي من جيبي والورقة البيضاء،
وأكتب ما يملأ رأسي من أفكار، كنت أشبه بالمزطول كل
فكرة تخطر على بالي أراها جديرة بالتسجيل والآن بعد أن
جلست وتهيأت للكتابة ضاعت من رأسي كل الأفكار.
مرت أمامه النادلة تحمل صينية عليها أكواب القهوة
والماء.. رفع رأسه يتأملها بعد أن استوقفها، شدته سمرة
وجهها التي تميل إلى الاحمرار قليلا.. كان صدرها نائتا
وقد وضعت أحمر شفاه خفيف، فبدت أشبه بوردة في
بداية تفتحها..
قالت له "أرى أنك في حاجة إلى تغيير المكان، ربما
يكون ذلك المكان أفضل بالنسبة لك، وأشارت بإصبعها
إلى طاولة في الجانب الآخر من المقهى.
امتدت يده إلى الورقة البيضاء فوق الطاولة، أخذها
ووضعها داخل محفظته، ثم التحق بالمكان الجديد الذي
دلته عليه النادلة السمراء.
كان كلما مرت أمامه النادلة السمراء، رفع رأسه وأعاد
التأمل في كامل بدنها.. بدت له جميلة وزادتها سمرتها
التي تميل إلى الاحمرار قليلا جماال. شعر بميل نحوها،
تمنى لو كانت تستطيع أن تجالسه قليال، ليسألها عن
ظروفها وأحوالها ومن أي جهة هي وكم عمرها.. كان
يتمنى أن تكون هي قد شعرت بهذا الانجذاب نحوها..
فتمنحه من وقتها، ما يسمح بمعرفتتها . ولكنه عاد
إلى كتابة ما كان بصدد كتابته على الورق الأبيض
المبسوط أمامه.. فجأة، اقتربت منه، ولم يتفطن إلى
وجودها، فقد انغمس في الكتابة، قالت له في استيحاء :
- مقهانا هذا ملهم الشعراء.. هل أنت شاعر ؟
رفع رأسه وكأنه كان ينتظر منها اهتماما أو أن تكلمه.
- هذا من حسن حظي.. ولكن أنا لست شاعرا.
- إذن أنت صحفي أو كاتب ؟
- وكيف عرفت ؟
أجابته :
- تعرف هذا المقهى يرتاده العديد من الصحافيين
والكتاب حتى أنني أعرف أسماء العديد من الصحافيين
الذين يترددون على هذا المقهى.. ولهم أماكن معلومة
يجلسون ويكتبون فيها.
قال لها :
- هذا جيد.. أنت أيضا جميلة وجذابة.
قالت له : شكرا... هذا من لطفك .
هم بطرح السؤال الذي يشغل باله.. ولكنها غادرت.
قالت له : عفوا.. سعدت بالتعرف عليك.. أتركك تكتب ما
تريد.. أنا ما زلت هنا إلى حدود الثانية بعد الظهر.. وكما
أن أمر عليهم
ّ
ترى، فرواد المقهى في ازدياد.. وعلي
جميعا لمعرفة ماذا يطلبون.
تركته وغادرت فجمع هو أوراقه وهم بمغادرة المقهى..
توقف قليلا وكانت النادلة ترمقه من بعيد، وفهمت أنه يريد
أن يتحدث إليها.. فجاءته، قالت له "أنا أنهي عملي مع
الساعة الثانية.. إذا أردت أن نلتقي بعد ذلك، يسعدني
ولكن خارج المقهى، تواعدا على اللقاء بعد أن تنهي
عملها في المقهى وانصرف هو يتأمل معروضات مغازات
المالبس الجاهزة المحاذية للمقهى..
كان طول الوقت يفكر في النادلة السمراء.. لماذا هو
مهتم بها إلى هذه الدرجة.. فليس بينهما سابق عالقة أو
معرفة، ربما كان ذلك مجرد فضول منه لمعرفة حكايتها،
كان ينتظر نهاية فترة عملها، وبينما كان يتأمل آخر
معروضات الكتب في مكتبة قريبة من المقهى حيث تواعد
على اللقاء مع النادية، شعر بيد تربت على كتفه، استدار
ليجدها هي.. وقد غيرت ملابسها ونزعت ملابس العمل،
فازدادت جماال..
قالت له :
- إلى أين تريد أن نذهب ؟
قال لها :
- ال شك أنك جائعة مثلي.. ما رأيك لو نذهب إلى أقرب
مطعم لتناول طعام الغداء.. فأنا عصافير بطني تزقزق
كما يقال ..
ابتلعهما الشارع الطويل، واتجها قاصدين نهج القاهرة
لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم الكائنة بهذا النهج.
إرسال تعليق