قصتي الطريفة مع ترجمة معاني القرأن الكريم
د.أحمد القديدي
في أواسط السبعينات كنت مساعدا للمرحوم عزوز الرباعي في الدار التونسية للنشر و في
نفس الوقت كنا مجموعة من الشباب و خاصة الزيتونيين نتحسر و نتذمر من رداءة الترجمات الفرنسية للقرأن رغم حسن نوايا من قام بها أمثال حميد الله الحيدربادي الهندي و بلاشير المستشرق الفرنسي و كنت في نفس الوقت بالصدفة جارا في حي المنزه للأستاذ الصادق مازيغ أتمتع بالجلسات اليومية في مقهى (اولمبيك) الصغير معه و مع جيران أخرين أعلام مثل القاضي الفاضل إبراهيم عبد الباقي رئيس محكمة التعقيب و المثقف "المهمش" محمود بلعربي (صحفي سابق في إذاعة باريس بالعربية في الستينات و كان يأوينا طلابا مفلسين) و اكتشفت أن أستاذنا الصادق مازيغ أقرب للتصوف المعتدل السليم وهو من حفظة القرأن و متبحر في أسراره وهو ممن يجيد الأدب الفرنسي و اللغة الفرنسية بدرجة عالية فجاءتني فكرة طريفة حين كنا نتحدث عن ترجمة معاني القران للفرنسية فقال مازيغ (إن الترجمات المتوفرة لا تنقل للقارئ الفرنسي أسرار الكتاب و روح الإسلام و ضرب لنا مثلا بترجمة الأية الكريمة (ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الرعد 28) بكلمات فرنسية عادية لا تؤدي معنى الخشوع من نوع les coeurs deviennent plus tranquilles و قال الأستاذ مازيغ " أنا لو ترجمتها لشحنت اللغة الفرنسية بنفس روعة العربية إيمانا و رهبة ثم تلا علينا ترجمته وهي (c'est a l'invocation d'Allah que s'apaisent les coeurs) و قلنا جميعا "الله الله روعة لأنك يا شيخ الصادق شحنت الفرنسية بروح القرأن لا بالمعنى المجرد و عرضت عليه فكرتي وهي أن يقوم هو بترجمة معاني القران و يساعده محمود بلعربي فامتنع معتذرا متعللا بكبر السن و لكنني أقنعته و اقنعت عزوز الرباعي بهذا المشروع فتحمس له و لكن كانت للشيخ الصادق مشاحنات مزاجية مع مدير دار النشر عزوز الرباعي لأسباب قديمة فالشيخ يعتبر عزوز أحد تلاميذه في المدرسة الصادقية و قال لي أن عزوز أكل حقوقه في تأليف سابق و لا يريد التعامل معه لكن و بإصرار مني وفقني الله دائما الى التغلب على الأمزجة و أعطي الشيخ الصادق مكتبا في مقر دار النشر بشارع الحرية لكن سقف المكتب يقطر حين يهطل المطر (و أذكر اليوم مبتسما كيف كان محمود بلعربي المشاكس يدون الترجمة وهو فاتح سحابة يتقي بها قطرات السقف و يغطي بها رأس الشيخ الصادق الذي يكون منهمكا في الترجمة و تغيير الكلمات بشغف و لا يبالي بالمطر!) الى أن تمت الترجمة بعد عامين وهي أروع ترجمة للقرأن نشرتها فيما بعد مؤسسة (جون افريك) بباريس في طبعة رفيعة بسعي مني حين توليت قسم النشر في دار جون افريك للبشير بن يحمد في اخر السبعينات (في شارع روكيبين بالدائرة الثامنة للعاصمة الفرنسية). وهكذا أعانني الله سبحانه على أن أكون وراء أشمل و أروع ترجمة فرنسية للكتاب المجيد بشهادة علماء فرنسيين لأنها بقلم رجل شديد الإيمان متصوف في رحاب القرأن متبحر في اللغتين و الثقافتين وهو شيخنا الصادق مازيغ رحم الله جميع من ذكرت و جزاهم خير الجزاء يا رب العالمين. و تأتي المرحلة الثانية من تلك المغامرة الثقافية الإسلامية حين اندلعت "حرب" بين الشيخ الصادق و مدير دار النشر بسبب الإختلاف في عدد النسخ المطبوعة فالشيخ و ابنه المحامي قالا لي أن العدد المسحوب من ترجمة معاني القران تربو على العشرين ألفا و يبرران هذا العدد بمشاركة دار النشر في كل معارض الكتاب العربية و الافريقية و الأوروبية و تواجد الكتاب في كل عروض الدار و اقتناء بلدان خليجية و افريقية منها الاف النسخ لكن رواية مدير الدار تقول أن عدد النسخ المطبوعة 5000 و بيع منها 3000 فقام المحامي ابن الشيخ بقضية لدى المحاكم لفض النزاع و لكن في الأثناء انتقلت أنا الى باريس أعمل مسؤولا عن النشر في مؤسسة (جون أفريك) و قام صاحبها التونسي الوزير الأسبق البشير بن يحمد بشراء حقوق الترجمة و نشرها بسرعة و كانت من أكبر مبيعات هذه المؤسسة. وأراد الله سبحانه أن أكون أنا نفسي وراء الفكرة والمبادرة ثم وراء إنجاز الطبعتين الأولى في تونس والثانية في باريس. أتذكر أن المستشرق الكبير الفرنسي (جاك بيرك) وهو واحد ممن ترجم معاني القران الى الفرنسية قال لي عند لقائنا العابر في معرض الكتاب بباريس أنه يعتبر ترجمة الشيخ الصادق أفضل ما تم من التراجم لأنها الوحيدة التي شحنها صاحبها بقداسة الإسلام و خشوع الايمان فرحم الله جميع هؤلاء و أحمده على توفيقي لما يرضاه و لما يخدم الحضارة الإسلامية.
إرسال تعليق