الدكتور احمد القديدي يكتب لكم تعريف الدولة الصالحة في زمن العسرة حسب ابن خلدون!

كتاب قمر تونس



الدكتور احمد القديدي يكتب لكم

تعريف الدولة الصالحة في زمن العسرة حسب ابن خلدون!




هذه عبارة من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) للعلامة عبد الرحمن ابن خلدون 1408 م و يؤكد في باب الدولة أسباب نشوئها و انهيارها مؤكدا بأن الدولة تقام على العصبية و أول شروط بقائها و منعتها هو الحضور المستمر في خدمة شعبها و خاصة في زمن العسرة مثل الجوائح و الأوبئة و الغزو الخارجي و الفتنة الداخلية و الزلازل و الطوفان و المجاعة و الجراد و لكن صلاحها رهن حصري على عدل صاحب الملك يقول ابن خلدون:" يكون صاحب الدولة الجامع لشوكة العصبية أسوة قومه لا ينفرد عنهم بامتيازات بل يكون أكثرهم تضحية وشجاعة وإقداما " لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب وهي لم تزل على حالها في هذا الطور.. وهو لا ينفرد دونهم بشيء وهم ظهراؤه على شأنه.. فبهم يقارع الخارجين على دولته ومنهم من يقلده أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر” حكم الدولة الصالحة كما سماها العلامة هي التي يجدها من نسميهم اليوم مواطنوها في أوقات الشدة التي يسميها ابن خلدون (العسرة) فترى الرعية منقادة للراعي لأنه يتمسك بأن يكون قائدها ورائدها وحاميها دون أن يتميز عن شعبه أو يسرق منم حقوقهم وأموالهم من خلال ما نسميه اليوم (الضرائب) أو ما طرأ على بعض دول العالم من فساد مؤذن بخراب الدولة! ويحلل العلامة مرحلة القوة والتمكن في الدولة فيقول: "طور الصعود والعظمة: يتميز هذا الطور الثاني بخصائص مناقضة للطور الأول فبدلا من “خشونة البداوة” التي انبثقت منها العصبية أول يوم تبدأ “رقة الحضارة” وبدلا من الروح الجماعية والوحدوية والانسجام تبدأ الفردانية والأنانية وعوضا عن اعتماد صاحب الدولة على قبيلته وعشيرته وعصبيته يلجأ للموالي والمصطنعين (نسميهم اليوم عام 2020 المرتزقة) فيأخذ في الاعتماد عليهم والاستغناء عن العصبية التي مكنت له أول الأمر ومن هنا يبدأ المرض المزمن والداء العضال الذي سيؤدي ولو بعد مراحل لفناء دولة العصبية وانهيارها و إذا أوجزنا تعريف العلامة للدولة نقول :" تعريف ابن خلدون للدولة : يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها بمصطلحات علم الاجتماع الحديث: « كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية وهي أيضاً وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها»

من خلال هذا التذكير الموجز برأي ابن خلدون في معنى الدولة و شروط قوتها أردت أن أستعرض نماذج معاصرة من الدولة الصالحة في بلاد المسلمين و غير المسلمين خاصة و العالم يمر بهذه المرحلة غير المسبوقة من (العسرة) المتمثلة في انتشار وباء الكورونا فأجد أمامي نماذج ساطعة من أصحاب الدول الذين وفقهم الله الى خدمة شعوبهم و صيانة أرواح مواطنيهم و كسب القلوب التي ألفها الله حولهم فأيدتهم و أطاعتهم في الحق و كانت دولتهم من ذلك الصنف الذي حلله العلامة ابن خلدون (في بداية القرن الخامس عشر م) و لم ينافسه في علومه أحد منذ ذلك التاريخ الى اليوم حيث شهد له العلماء من أدنى الأرض الى أقصاها بأنه رحمه الله (وهو خريج جامعة الزيتونة التونسية التي تعلمت فيها أنا بعد قرون خمسة)كان مؤسس علم الاجتماع السياسي و مؤسس فلسفة التاريخ و مبتكر نظريات تداولتها الجامعات لمدة ستة قرون أبرزها نظرية نشوء الدولة و أطوار نضجها و هرمها و بعد ذلك فناؤها تماما كما حددها الله سبحانه في كتابه المجيد ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾.

صدق الله العظيم فالقرية هنا بمفهوم الأمة أو الدولة و حين كفرت بأنعم الله (لا بنعمة واحدة) بعد أن كانت أمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله و أذاقها الله سبحانه لباس الجوع و الخوف جزاء ما كانوا يصنعون. أما الدول الصالحة اليوم بالمعنى الخلدوني فهي أمام أعين العالم و أولها الجمهورية التركية التي سخرت كل إمكانات الدولة من أجل صحة و أمن شعبها و دولة قطر التي أفاضت بخيرها على الشعوب المنكوبة فأرسلت معوناتها الى إيطاليا و الصين و فلسطين و لبنان حتى توجهت لها المنظمات الأممية بالتقدير و كذلك دولة كوريا الجنوبية التي ابتكرت أساليب جديدة و ناجعة لخدمة مواطنيها الى جانب تايوان و السويد و رواندا اللتي قدمت مثل النجاعة و تطويق الأزمة و إدارتها باقتدار. هذه هي الدول الصالحة حسب رأي ابن خلدون في زمن العسرة. و لنا في الفكر الخلدوني أروع ما ينير طرقات الحاضر و من الحكمة ما يشرح صدورنا للحقيقة.

comments

أحدث أقدم