الموقف السياسي :
يكتبه الاستاذ عبد اللطيف الفراتي
في شأن تشكيل الحكومة
اللاحدث le non évènement
في اللغة الصحفية ، عندما يكون حدثا على غاية الأهمية منتظرا ، ولا يحدث ويكون قد تجند له عشرات وربما مئات الصحفيين وسبقته استعدادات لوجيستية كبيرة ، تطلبت ساعات ، وربما في بعض الأحيان الأسابيع والأشهر، يقول الصحفيون بانتفاء حدث كان منتظرا ، وهو مايسمى باللغة الصحفية ، اللا حدث أو باللغة الفرنسية le non évènement ، ولقد مررت في حياتي الصحفية بعديد المرات التي عرفت فيها اللاحدث ، أي الانتقال لتغطية صحفية يتم إلغاء الحدث المرتبط بها في آخر وقت ، أو بعد الوقت المحدد، في الوقت التي ينتظر منه نتائج على غاية من الأهمية ، وسأقتصر هنا على ثلاث من تلك المناسبات عشت اثنتين منها ، وتابعت عن بعد الثالثة ، والثالثة وهي الأخيرة هو ما حصل بالأمس ، عندما دعي الصحفيون بالعشرات لمتابعة ندوة صحفية ، لرئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي ، بقصد الإعلان عن تركيبة الحكومة ، وإذ دعي الصحفيون لتمام الساعة الرابعة ، وجاؤوا وتسمروا على مقاعدهم ، فقد تأجل موعد ظهور الهلال ربع ساعة بعد ربع ساعة حتى السادسة ، وهات يا تأويلات ، وباتت الرؤية شبه مستحيلة ، ولكن لم يتوقع لا الصحفيون الحاضرون ولا من تسمروا على مقاعدهم في بيوتهم أمام شاشات التلفزيون في حرقة انتظار، دام شهرا ونصفا والبعض يقول شهرين ونصفا ، منذ مساء ظهور نتائج الانتخابات التشريعية في 6 أكتوبر الماضي ، وكان أن تكلم رئيس الحكومة المكلف لمدة نصف ساعة ، والحضور أمامه والغائبون في بيوتهم يمنون النفس ، بإهلالة قائمة وزراء حكومة الحبيب الجملي ، ولكن خاب فألهم عندما فاجأهم رئيس الحكومة بمقولة اللاحدث الصحفية، عندما أعلن أنه لن يقدم لهم تشكيلة الحكومة مؤجلا ذلك لليوم الموالي (؟؟؟؟)، ودافعا عن نفسه "تهمة " عدم إعلان حكومته ، مستندا إلى أنه دفع بقائمته لرئيس الجمهورية ، الذي سيقدمها إلى رئيس البرلمان ، لتنال ثقة المجلس التشريعي ، وطبعا ليس هذا لا في الدستور ولا في القانون الداخلي لمجلس النواب.
باختصار شديد قبل المرور لصلب الموضوع ، المرتان الأخريين اللتان عشت فيها اللاحدث ، كانت الأولى بمناسبة قمة عربية في الرباط ، ولم يكن الملك الحسن الثاني راضيا عن مستوى التمثيل ، لغياب العدد الأكبر من رؤساء الدول العربية، وكان يمثل تونس وقتها الوزير الأول محمد مزالي وكنا في سنة 1982، فخرج الملك على المؤتمر بعد ثلاث ساعات من موعد بدئه المفترض ، ليعلن عن انفضاضه حتى يأخذ رؤساء الدول العربية مؤتمرات قمتهم مأخذ الجد، وكانت المرة الثانية في تونس ، وقد لجأ الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي لنفس التعلة ، وكان مقال للصديق الزميل برهان بسيس في جريدة الصباح أيام كان أستاذا في الثانوي، لتبرير موقف بن علي و"طرده" لمن جاء من زملائه الرؤساء ، قد أعجب الرئيس التونسي ، وكان سببا في اكتشافه وصعوده المباشر، وانتقاله إلى موقف التبرير لقرارات بن علي ، بعد أن استقبله الرئيس آنذاك وبدأ ارتقاؤه الصاروخي.
كانت تلك المناسبات التي يمكن وصفها بأنها كانت لاحدثا هز السائد من الأحداث.
**
وعودة إلى موضوعنا أي تشكيل الحكومة التونسية ، فإن تقديري منذ البداية ، هو أن اختيار حركة النهضة للحبيب الجمني كرئيس للحكومة لم يكن اختيارا موفقا لثلاثة أسباب :
أولها أن الحبيب الجملي لا يتمتع بأي تجربة إدارية ، والاعتقاد السائد هو أن تصريف شؤون مؤسسة ما اقتصادية أو سياسية كالوزارة ،هو الذي يعطي للمرء القدرة على تصور كيفية التصرف والإدارة ، والثابت الواضح أن الجملي لم يرأس يوما ما لا شركة أو مؤسسة عمومية أو خاصة ، وحتى رئاسة بلدية ، وحتى كتابة الدولة فإنها لا تعطيه الفرصة للتصرف المالي والإداري فالوزير هو الذي يتولى ذلك التصريف .
ثانيهما وهو سؤال أو تساؤل :هل إن الجملي يتمتع بالخبرة الاقتصادية والاجتماعية العرفية النظرية والعملية ، لقيادة حكومة أي حكومة دون تجربة سابقة.
وهل هو مسلح نظريا من ناحية إلمامه الفلسفي وهو مهم جدا ، ومن ناحية المعرفة الاقنصادية الاجتماعية وللدور القيادي ، وهل يتمتع بمقومات المواهب القيادية ، أو هل له كاريزما ضرورية لحسن تسيير شؤون الدولة ، وإذ يفتقدها تماما كما هو حال رئيس الجمهورية ، فمن سيكون له التأثير الفعلي على الجماهير بحكم شخصيته ، كما كان شأن بورقيبة ، وحتى بن علي ، وفؤاد المبزع ، وأيضا الباجي قائد السبسي ، وكذلك محمد الناصر في فترة رئاسته الوقتية والقصيرة؟؟؟
ثالثها : ماهو وزن رئيس الحكومة الحبيب الجملي على الصعيد الدولي ، وخاصة لدى المؤسسات المالية الدولية والاقليمية ، التي تتعامل معها تونس وتعتبر مهما كان التقييم اليوم تونس مرتهنة لديها.
**
يوم اختيار الحبيب الجمني ليكون رئيسا للحكومة ، من قبل مجلس شورى حركة النهضة ، على ما يبدو على غير رضا الاستاذ راشد الغنوشي ، وهـــــــو ما أثار " احتكاكا" ما زال يولد شرارا في قيادة الحركة ، ما زال يهدد بكل الأخطار في داخل أكبر حزب في البلاد وأشدها تنظيما ، وانضباطا ، وفي صباح ذلك اليوم نفسه كان رضا بن مصباح في سفارة ببروكسيل واللكسمبورغ وخاصة الاتحاد الأوروبي ، وهو من هو كفاءة وعلاقات دولية ، وإلماما ل بالملفات ، كان ينتظر مكالمة لتأكيد أو نفي ترشيحه لرئاسة الحكومة ، بعد أن تم الاتصال به ، وجاءت المكالمة بالنفي .
ورضا بن مصباح هو أحد كثيرين من الوجوه التونسية ، ذات الاشعاع والكاريزما اللازمة لقيادة الحكومة ، ممن عملوا أو تعاملوا مع مؤسسات مالية دولية أو إقليمية، وممن يملكون قدرات معرفية عميقة يمكن من جهة أن تساعد على تسيير الأمور ، ومن جهة أخرى على فرض ثقة لفائدة تونس في الأوساط الدولية .
وإذا تركنا جانبا الطموحات الشخصية للقيادي السابق في حركة النهضة زياد العذاري ، والمستقيل بسبب ما اعتبره "الاختيار السيء" لمنصب رئيس الحكومة، الغير القادر لا معرفيا ولا من ناحية التأثير على سير الأمور ، وضعف القدرة على التواصل دوليا ، خاصة في غياب رئيس دولة يمكن أن يوحي بالثقة ،مثلما كان الباجي قائد السبسي الذي كانت اختياراته لرؤساء الحكومات في عهده سيئة هو الآخر، ولكن شخصيته وما يتمتع به من كاريزما داخليا وخارجيا غطت على ضعف وزن رؤساء الحكومات الذين اختارهم.
**
ما هو المنتظر اليوم وبعد اللاحدث يوم أمس الأربعاء 1 جانفي ، هل سيعلن عن تركيبة الحكومة اليوم أو غدا ، وهل ستتفق شقوق النهضة فيما بينها ، ولا تتصارع على وزارات بعينها ، فتمتد فترة ليلة الشك ، حتى انتهاء مدة مهلة الحبيب الجملي في منتصف هذا الشهر ، وعلى فرض نجاح الجملي في تشكيل الحكومة ، فهل ستفوز بثقة البرلمان ، وما إذا كانت كتلة النهضة ستصوت لها بالتمام والكمال ، وما هو الحزام السياسي الذي ستستند عليه ، وما هو حجمه ، وعلى كل فوداعا لاحتمالات تركيز المحكمة الدستورية وعدة مؤسسات دستورية أخرى ، وستزداد البلاد غرقا فوق غرق.
وما هي قدرات الجملي المعرفية على مجابهة الازمات المقبلة ، والتحديات الكبرى أمام تونس ، ولا قبل بها إلا لرجل يكون بقدرات خارقة ، مثلما كان الثنائي الهادي نويرة/ منصور معلى في السبعينيات ورشيد صفر/إسماعيل خليل بعد أزمة إفلاس البلاد سنة 1986.
وإذا لم يتوفق الحبيب الجملي لتشكيل حكومة تنال ثقة البرلمان ، وإذا لم يتوفق بعد الثقة لحل أزمة البلاد الخانقة ، فلأي كارثة تسير تونس ، وهل تبدو انتخابات سابقة لأوانها في الأفق في شهر جوان ، تنقلب فيها التوازنات السياسية رأسا على عقب ، وتصبح فيها النهضة في مرتبة ثالثة أو رابعة ، بعدد أقل من المقاعد في برلمان ، سيكون صورة للبرلمان الحالي تشتتا وتذررا.
fouratiab@gmail.com
إرسال تعليق