الحديث الذي اجراه معي الصحفي على الحسن لجريدة الوطن السورية .الحديث موجود الان على الموقع الالكتروني للجريدة وينشر غدا الثلاثاء في النسخة الورقية للجريدة
***************************************************************
يتنفس برئتين.. رئة الصحافة ورئة الأدب...التونسي محمود الحرشاني: التيار السلفي موجود ولا دور للإعلام دون حرية حقيقية
ابن قرية ريفية في وسط تونس اسمها الواعرة. نشأ بين أحضانها ودرس في سن مبكرة عند «مؤدب القرية» وكان يتردد على مجالس الكبار وأسمارهم ويستمع إلى حكايات أبناء القرية التي كانت تأخذه إلى عوالم سحرية؛ الحكايات ذاتها التي كان يرويها في اليوم التالي إلى أقرانه بحماسة فيما يصغون هم بشغف فتأسس لدى محمود الحرشاني يافعاً خيال خصب وملكة التأليف والقص إلى حد البراعة إذ نشرت له قصص وهو في سن مبكرة. محمود الحرشاني الأديب والإعلامي التونسي ابن مدينة «سيدي بو زيد» التي ترأس فرع اتحاد الكتاب فيها لسنوات اسم لامع في دنيا الإعلام والأدب ونتاج له حضوره على نحو لافت في المشهد الثقافي التونسي والعربي على غير صعيد أهله ليكون مكرماً في مناسبات عدة من أوسمة استحقاق في بلده إلى تكريمات في جوائز عدة.
بواكير الشباب والأكسجين
كنت أتساءل وأنا أرى نشاطك ونتاجك.. كيف لك كل هذا النشاط.. من أين يستمد الحرشاني كل هذا الجلد على العمل؟
في اعتقادي أن المسألة مرتبطة لدي منذ بواكير شبابي بغرام لا حد له لمهنة الصحافة والكتابة والتوق إلى الإضافة وتجاوز الممكن إلى ما هو أفضل أو بمعنى أدق تجاوز ما هو مقدور عليه وبإمكان أي إنسان القيام به إلى تحقيق ما هو صعب التحقيق. من هنا تراني موزعاً وحتى في هذه السن بين قطاعات ومشارب عدة بين الكتابة في الصحافة والإنتاج الإذاعي وتأليف الكتب وإدارة المهرجانات الثقافية وفي كل هذه القطاعات أجد راحتي وأشعر أنني أحقق ذاتي
.بدأت حياتك المهنية صحفياً ثم مارست الكتابة الأدبية.. وها أنت بقيت مخلصاً للصحافة والإعلام.. لماذا الصحافة هنا؟.. ما السر وهي التي عادة ما يهجرها من يعمل بحقل آخر.. الأدب هنا؟
أنا رجل أتنفس برئتين سليمتين رئة الصحافة ورئة الأدب والثقافة عموماً.. الصحافة مهنتي التي أحببتها وأعطيتها من روحي وتعبدت في محرابها عاشقاً ومتيماً لم أحسب أبداً ماذا يمكن أن تعطيني بل كنت أسال نفسي دائماً ماذا بمقدوري أن أعطيها حتى تبقى علاقتنا دائماً علاقة عاشقين متيمين. أما رئة الأدب فهي الرئة التي تعطيني هواء أكثر نقاوة وأكسجيناً يساعدني على الاستمرار في الحياة بأكثر قدرة على العطاء. لذلك دائماً ما أقول لنفسي ولأصدقائي الصحافة مهنتي والأدب هوايتي. أدخلتني الصحافة إلى الأدب وأدخلني الأدب إلى عالم من الحلم والجمال جعلني أكثر إدراكا لرسالة الإنسان المبدع في الكون.
الطرافة والقسوة
ربما من هنا يأتي التعريف بك؛ الصحفي الأديب والأديب الصحفي.. ألم تخلق لك رئتك الصحفية مشاكل مع الوسط؟ ألم يضيّقوا عليها؟
هذا مؤكد. فقد اعتاد الناس أن الصحفي عادة مجاله ومجال تحركه هو في الصحيفة أو المجلة التي يكتب فيها وإذا تجاوز ذلك عدّ منه الأمر تطفلاً على مجال غيره. أما أنا فقد أتيت إلى الصحافة من عالم الكتابة الأدبية فقد بدأت الكتابة في سن مبكرة وكنت أراسل الإذاعات التونسية والعربية بمحاولاتي الأدبية الأولى وخصوصاً في القصة كما نشرت أول محاولة قصصية بعنوان «بقرة أبي» في جريدة الصباح التونسية في «سن 14» في صفحة كانت تعنى بأدب الشباب ثم نشرت في صحف أخرى في نفس السن تقريباً مثل صحف المسيرة والناس والأيام والعمل ومجلة الإذاعة التونسية ومن الطريف أن أول مقال نشرته بمجلة الإذاعة سنة 1972 كان بعنوان «رفقاً بمنتجي البرامج الإذاعية لا تقسوا عليهم ولم أكن أعلم أن القدر يخبئ لي أنني بعد سنوات من ذلك المقال سأتحول أنا بدوري إلى منتج برامج إذاعية حيث أنتجت ما يزيد على 15 برنامجاً إذاعياً في كل الإذاعات التونسية تقريباً وبعض هذه البرامج تحول إلى كتب وقد كان لي السبق في ولوج عوالم ومجالات في الإنتاج الإذاعي لم يسبقني إليها أحد مثل برنامجي عن الجوائز الأدبية الذي أنتجت منه 15 حلقة وتحول إلى كتاب هو الآن مرجع في عديد المكتبات المشهورة وبرنامجي عن مقدمات الكتب الأدبية وقد تحول هو الآخر إلى كتاب وبرنامجي عن الصحف والمجلات القديمة في تونس.. إلخ. لذلك أعتقد أن البعض يقلقه هذا الجانب وقد تعرضت إلى حملات نقد ظالمة تقبلتها بكل أريحية لأني رأيت فيها تعبيراً من الآخرين عن نجاحي وتفوقي.
للنجاح عدوات.. ولكنك أيضاً تجمع بين الأدب والسياسة وألفت في ذلك أكثر من كتاب.. أسألك عن التصادم والاشتباك بين عالمين لم يكونا يوماً متصالحين؟
أنا لم أمارس السياسة بالمفهوم السياسوي للكلمة ولم أنخرط في أي حزب سياسي قديماً ولا حديثاً ولكن اهتمامي بالسياسة يبدأ وينتهي في حدود الالتزام بقضايا وطنية أراها قدراً مشتركاً بين الجميع وخصوصاً بين النخب الثقافية والسياسية على السواء. ولأني شديد الحرص على استقلاليتي فأنا لم أنتم إلى أي حزب سياسي كما أني لم أعاد أي حزب وأعتبر دائماً أن السياسة هي مفسدة للأخلاق أما الثقافة فهو أداة لصنع الجمال وأستحضر دائماً المقولة التي مفادها «إن الثقافة تصلح ما تفسده السياسة». وعندما أشارك في نشاط سياسي فليس معنى ذلك أنني أصبحت سياسياً أو ملزماً بتوجهات حزب معين وإنما أجد في نفسي دائماً الشجاعة لأرفض المشاركة في أي عمل سياسي يتنافى وقناعاتي كما تجدني أحياناً شديد التحمس للمشاركة في نشاط سياسي أو حزبي لأني أرى فيه جانباً من تحقيق أحلام الكاتب أو المبدع وهي زوايا في المشهد قد لا يتفطن إليها الكثيرون
.فيض الوجدان.. مال وإبداع
في الحديث عن زوايا المشهد.. لك كتاب بعنوان «البحث عن فكرة» يتضمن حوارات مع مفكرين كتّاب وروائيين.. أسألك عمن كان للقاء به وقعاً خاصاً.. ولما؟
؟لهذا الكتاب مكانة خاصة في نفسي من بين كتبي الاثني عشر لأني جمعت فيه حوارات صحفية وثقافية مع شخصيات ومثقفين ومفكرين كبار استفدت منهم ومن آرائهم. أستحضر الآن حلاوة اللقاء مع المفكر التونسي الشاذلي القليبي ومتعة اللقاء مع الأديب السوداني الطيب صالح وطلاقة الفنان نور الشريف وقوة حجة المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري وروعة اللقاء مع الروائي التونسي عبد القادر بن الحاج نصر أو «بلزاك تونس». كما لا أنسى دقة أجوبة المثقف والإعلامي محمد مصمولي ودفاع عبد العزيز سعود البابطين عن الشعر والشاعر اللبناني جورج شكور وهو يدافع عن الشعر العمودي. لذلك لا تراني أخيّر أحداً على آخر في كل حوار كنت أبحث عن الفكرة الشائعة علّي أجدها في ثنايا أجوبتهم عن أسئلتي.
لديك جانب لافت من البوح وذاكرة فيّاضة إلى جانب الاهتمام بالمشهدية.. ماذا عن عالمي الرواية والسينما في قاموسك؟ب
حكم نشأتي وتعليمي في القرية حيث الحكايات والخيال الخصب والأسطرة لدي موهبة روائي ولكنها لم تجد الفرصة أو الوقت المناسب للبروز وقد يكون الآن قد تأخر الوقت كثيراً لتظهر هذه الموهبة رغم أن العديد من كتبي لا يهمل جانب الرواية وخاصة في كتبي «مذكرات صحفي في الوطن العربي» و«دفتر سفر» و«فيض الوجدان» كلها كتب تحضر فيها الرواية بقوة ولكنها لا تعلن عن نفسها بقوة. أحياناً أقول متى أكتب روايتي الأولى وأحداثها وشخوصها ماثلة في مخيلتي ولكن يأتيني الجواب حذار فقد تأتي مرعى غير مرعاك.
مغامرة.. رفض.. تفوق..
وهل ينطبق ذلك على السينما أيضاً؟الحقيقة لا أعرف كثيراً عن عالم السينما رغم أن بعض أصدقائي يرون أنني قادر على كتابة السيناريوهات للأفلام أو كتابة مسلسلات للتلفزيون ولكن لم أجرب هذا وأخشى المغامرة فلكل جنس من الكتابة رجاله والقادرون عليه والمتميزون فيه ولا أخال نفسي منهم رغم أنني كتبت في بداية شبابي مسرحيات أذيع بعضها من إذاعة صفاقس التونسية ولكن الصحافة أخذتني بعد ذلك ولم أسع إلى تطوير موهبتي في الكتابة المسرحية أو كتابة السيناريو وأعتقد أن الكتابة للسينما هي فن قائم بذاته لا أملك أدواته مع الأسف.
كتبت للأطفال.. هل ترى أن الأجيال العربية تخلع جلابيب آبائها أم تلبس وربما بحماس و«فخر»؟!!
لا أعتبر نفسي كاتباً لأطفال وما كتبته من قصص للأطفال استمتعت به شخصياً وكان يدخل في باب وفائي بدين في عنقي لكتاب كبار قرأت لهم في صباي وبداية شبابي على غرار عطية الابراشي وكامل كيلاني محمد الدواس عندنا في تونس وعبد المجيد عطية وعلي بن هادية والعروسي المطوي عشت في قصصهم التي كتبوها لأطفال أجمل العوالم. كما قرأت قصصاً أخرى مثل كتب رأس الغول وسيف ابن ذي يزن وحتى كتاباً كتبه شيخ زيتوني عندنا في تونس كان يعد من الكتب المحرمة لأنه يتحدث عن علم النكاح وكنا نقرأه خلسة في المعهد ونتبادله في ما بيننا وكنت أتمنى أن أكتب للأطفال وفعلاً كتبت لهم مجموعة من القصص بعضها نشر في كتب والبعض الآخر في مجلات الأطفال في تونس والوطن العربي وأعتقد أن الكتابة للأطفال هي الفن الصعب وتحتاج إلى مهارات كبيرة.وكتاب الطفل في الوطن العربي عموماً ما زال تعيساً نصاً وإخراجاً بالمقارنة مع كتاب الطفل في أوروبا وكذلك الأمر لمجلات الأطفال وقد جربتها بإصدار مجلة للأطفال بعنوان «براعم الوسط» إلى جانب المجلة الأم «مرآة الوسط» ولكن أعتقد أننا نحتاج إلى إمكانيات كبيرة لصناعة مجلة تروق للطفل وتلبي حاجياته المعرفية والتربوية.في كل جيل هناك دائماً ثورة الجيل الجديد أو الطالع على الجيل السابق وظاهرة الرفض هي ظاهرة إيجابية لأن الجيل الجديد لهم عوالمهم الخاصة وأحلامهم وتوقهم إلى الحياة ولا يصلح تذكيرهم بمآثر الجيل الذي سبق إلا من باب كدح جانب الإبداع فيهم حتى يتفوقوا على أنفسهم ويبدعوا ما هو أفضل في إطار علاقة تواصل ولكل جيل رسالة يضطلع بها في إطار التواصل لكن دون أن يكون الجيل الجديد حبيس نظريات الجيل السابق
.شوائب وفشل
بالعودة إلى «الجوائز الأدبية» وقد أتيت على ذكر كتابك عنها.. كيف تنظر إليها وهي الميدان دائم الجدل؟
دائماً يثار كلام كثير عن الجوائز الأدبية وفي كتابي عنها حاولت أن أعرّف بهذه الجوائز وهي كثيرة وكثرتها شيء إيجابي لأن المبدع يبقى دائماً في حاجة إلى جائزة تشحذ همته وتشعره بتقدير الآخرين لإبداعه. وهناك جوائز ذات قيمة عالية في الوطن العربي تتمتع بمصداقية كبيرة وهناك جوائز أخرى كثيرة يشوب بعضها عدة شوائب وأحياناً تنقصها المصداقية وتفتقر إلى الموضوعية وضررها أكثر من نفعها.
تطمح إلى إنشاء شبكة إعلامية متكاملة تحمل اسمك... ماذا عن هذا المشروع؟
مشروع شبكة الحرشاني للإعلام هو مشروع كبير يختزل كل طموحاتي ويجمع شتات جهودي في مجال الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع والإلكتروني فأنا رجل كما ترى حبري موزع بين القبائل وأعتقد أنه لا بد من تجميع هذا الجهد في شبكة موحدة ولكن تعوزني الإمكانات. لا بد من المال وأنا لست في علاقة جيدة معه ولذلك فهو يجافيني باستمرار ولا يطيب له عندي مقام وأرجو أن أجد الدعم من إحدى الجهات التي تؤمن بجدوى هذا المشروع لبعثه في أقرب وقت وفي انتظار ذلك سأبقى مشتتاً بين بيوت لي أسستها في مواقع عدة ولي في كل منزل ذكرى ومتع
المال والإبداع لا يلتقيان ولذلك كثيراً ما تصطدم أحلامنا بالفشل
.الخطوط الحمراء.
. سيكون الحوار ناقصاً مع كاتب وأديب من «سيدي بوزيد» إن لم يكن السؤال: ماذا فعلتم؟ «شرارة امتدت حرائق» وربما العالم ينفخ.. أسألك عن تونس قبل «الشرارة» وبعدها؟؟
كنت أنتظر منك هذا السؤال. فقدر سيدي بوزيد هذه الولاية أو المحافظة بالوسط التونسي مقدارها أن توقد الشرارة الأولى لأهم ثورتين في تاريخ تونس المعاصر. الثورة الأولى في 18 كانون الثاني سنة 1952 ضد الاستعمار الفرنسي حيث انطلقت أول طلقة بارود ضد جيش الاستعمار من جبل قارة حديد الكائن بهذه الولاية واشترك أبناء هذه الولاية أفواجاً أفواجاً في الثورة المسلحة التي انتهت بدحر الاستعمار وفي كل واقعة قدمت سيدي بوزيد شهداء من أبنائها إلى أن تحقق استقلال تونس في 20 آذار 1956 وفي معركة الجلاء عن بنزرت سنة 1961 كان العدد الأكبر من الشباب الذي اشترك في تلك المعركة الخالدة من أبناء هذه الجهة وشاء القدر أن تنطلق شرارة «الثورات» من هذه المدينة أيضاً.
نقرأ ونسمع عن امتداد تيارات سلفية في تونس.. ماذا عن الحريات في تونس؟ا
لتيار السلفي موجود في تونس ولا يمكن نكرانه وأسمع كما يسمع كل التونسيين عن أعمال يقومون بها قد لا ترضي الكثيرين وتندرج ضمن فرض نمط جديد من السلوكيات في المجتمع ولكن لا أستطيع أن أتوسع في هذا الموضوع لحساسيته من ناحية ولعدم إلمامي بكل جزئياته من ناحية ثانية.عن الحريات أعتقد أن الشعب التونسي يتمتع الآن بسقف عال من الحرية وحرية التعبير فحرية التنظم في أحزاب أو جمعيات مدنية ثقافية أو رياضية أو اجتماعية أو حتى حقوقية، وهناك قضية من المجتمع لمراقبة الدولة والإعلام والصحافة عموماً فيها الآن سقف عال جداً من الحرية إلى حد أن البعض يرى أن هناك تجاوزاً لكل الخطوط وهذا طبيعي جداً ويعقب كل الثورات ولكن المجتمع في حاجة أيضاً إلى الاستقرار ليتم البناء ولا يعني ذلك تقييد الحريات وخاصة في الإعلام لأن الإعلام لا يمكن أن يلعب دوره كسلطة رابعة حقيقية في غياب الحرية رغم أننا سجلنا بعض الحالات التي يفهم منها شبه محاولة السيطرة على الإعلام والحد من الحرية ولكن الإعلاميين يرفضون هذا ويدافعون عن مكسب الحرية بكل قواهم.
علي الحسن
المصدر . جريدة الوطن . السورية
إرسال تعليق