من سرق المقهى؟!...المقاهي الثقافية مشغولة بـ «جدل» المثقفين وتتخلى عن دورها للمساجد تحقيق علي الحسن..جريدة الوطن السورية |
هل ما زالت المقاهي الثقافية في البلدان العربية تعيش زخماً ثقافياً وفكرياً وإبداعياً؟ وهي الأمكنة التي طالما ارتادها الشعراء والروائيون والكتاب حتى أصبحت علامة فارقة حيث دارت فيها نقاشات وجدالات فكرية وثقافية وشهدت ولادة أفكار وإثارة قضايا وإشكاليات في الأدب والفكر والسياسة والفن. والسؤال هل تراجع دور المقاهي الثقافية في العواصم العربية وانحسرت مكانتها وما دورها فيما تشهد البلدان العربية من «ربيع»؟! وهل تخلى المقهى الثقافي عن دوره في حضرة المسجد؟! وثمة أسئلة عن الإبداع والشعر والسياسة يثيرها مقهى عبد الله عيسى الثقافي مع مبدعين وشعراء وروائيين وإعلاميين على أثير صوت روسيا.
سعاد سليمان الروائية المصرية تعود في ذاكرتها إلى الطفولة حيث كان لها أول تماس مع المقهى إذ اصطحبها عم لها ذات يوم إلى أحد المقاهي حينها وراحت الطفلة ترقص وسط تشجيع عمها وعدد من رواد المقهى لكن شاءت المصادفة أن يمر والدها الذي قام بتأنيبها وضربها من باب أنه لا يجوز أن ترقص في المقهى.
وحول أثر المقهى في حياتها الإبداعية تشير سليمان صاحبة «آخر المحظيات» إلى عالم نجيب محفوظ «كبيرنا الذي علمنا السحر»، سحر في المقهى وسحر الأدب حيث تقف سليمان عند مقاهي «وسط البلد» التي طالما كانت «كعبة المثقفين» إلى جانب مقاه أخرى: «ريش»؛ عبق التاريخ وذكريات المبدعين: أمل دنقل، نجيب سرور، أم كلثوم، فاطمة رشدي، وأجواء الثقافة والأدب والفن، وتتذكر سليمان صاحبة «غير المباح» كيف أن مقهى ريش احتضن متظاهرين أيام السادات حيث كان المقهى مخبأً لهم بعد الانتهاء من المظاهرات، ومنه أيضاً انطلقت تظاهرات «ثورة يناير» وتتوقف سليمان عند مقهى الفيشاوي الذي طالما شهد تبادل أفكار ونقاشات بين مثقفين ومبدعين وفنانين وكتاب.
سعاد سليمان في حديثها لمقهى عبد اللـه عيسى الثقافي عن مكانة المقهى في ذاكرتها الإبداعية وفي تشكيل المزاج الإبداعي لديها، أبدت حماسةً ودفاعاً مستميتاً بكل السبل حتى بالجسد ضد الدعوات لهدم الأهرامات وأبو الهول التي أطلقها موتورون ضد حضارة وتاريخ وتراث مصر، مشيرةً إلى أنها لا تعول هنا كثيراً على «الدولة المصرية» بقدر ما تعول على المصريين في حماية المتاحف والأهرامات ممن سمتهم «المحتلون الجدد» الذين يدينون بـالتطرف والظلامية والجهل.
القهوة والياسمين
الكاتب والناقد السوري باسم سليمان وفي حديثه عن مقاهي دمشق يؤكد أنه ورغم الألم فإنه وفي كل صباح.. في البيوت كما في المقاهي لا يمكن لأحد أن يمنع القهوة من أن تصب في دمشق على رائحة الياسمين ذلك أنه يرى أن دمشق ورغم صعوبة ما يجري ستستيقظ كل صباح ممتلئة بروح الشباب، ويشبّه سليمان صاحب «تماماً قبلة» دمشق «بعشتار» و«عناة» و«الخنساء» وهي أيضاً المراهقة التي كتب لأجلها نزار قباني «طفولة نهد» وقال عنها ما قال محمود درويش.
الخوف.. والحب
ويرى سليمان في حديثه إلى مقهى عبد اللـه عيسى الثقافي أن الإشكالية بدمشق أنها حجر زاوية سياسياً واجتماعياً وأنها أثرت في هذا الشرق كله بقاراته القديمة الثلاث وعندما يأتي الشاعر إليها فإنه يمتص كل الحيوات والعصور فيشعر حيناً أنه قائد أممي، وحيناً قائد إسلامي وحيناً أنه من جان وادي عبقر، لافتاً إلى أن دمشق تشكل حالة من الميتافيزيقيا لا يمكن إغفالها أبداً رغم أنها مدينة سياسية بجدارة.
دمشق التي طالما كانت تتسع للجميع وقد قتلناها حباً وقتلناها كرهاً يراها صاحب «لم أمسس» قادرة أن تلدنا كلنا من جراحاتها العميقة وأن تنتصر علينا جميعاً بحبها لنا نحن السوريين الذين جميعنا ظلمنا دمشق وأخطأنا جميعاً بحق دمشق أما عن مثقفيها فقد أصابهم - يعقب سليمان - ما أصاب امرأ القيس كان يومهم بالخمر يبدأ ولهم في الغد أمر.
ويسأل باسم سليمان الذي صدرت له مؤخراً رواية بعنوان «لسان الضفدع» المثقفين السوريين والعرب: هل ترون ما يحدث في العالم العربي هو «ربيعاً»؟ ويسأل أيضاً: أليس البحث عن الحوار والحب أجدى؟ ولماذا كل سوري يريد أن تكون دمشق له؟ مشيراً إلى أن ما يسمعه من المثقفين يخيف، وما يسمعه من الساسة يخيف.
ويرى سليمان أن أدونيس، والماغوط، وسليم بركات، ونزيه أبو عفش أصبحوا كنجوم شباك التذاكر رغم قاماتهم الكبيرة وأنهم معلمون استطاعوا أن يقدموا نتاجاً متميزاً في زمانهم أما اليوم فلا يمكن الحديث عن شاعر جماهيري وأنه لن يكون لأي شاعر حظوة مهما أنجز ذلك أن الشعر ولأنه أكثر إبداعاً تنحى عن مكانه لصالح شعبية الرواية.
محاكم تفتيش و«ولهو أبالسة»
مقهى عبد اللـه عيسى الثقافي استضاف أيضاً الكاتبة المصرية سهير المصادفة في إضاءات على ذاكرتها لتفاصيل حياتية حميمية عاشتها في روسيا ثمانينيات القرن الماضي حيث تتوقف صاحبة «لهو الأبالسة» عند احتفاء الروس بمبدعيهم وكبار كتابهم، مشيرةً إلى أنها متيمة بالأدب الروسي منذ أن كانت بالثانوية وأرادت أن ترى كل الشوارع والأماكن التي سار فيها كبار الكتاب والأدباء الروس، لافتةً إلى أن مصر بدأت تعمل على جعل بيوت الأدباء المصريين، والعرب الذين عاشوا في مصر متاحف يؤمها الأدباء والباحثون والمهتمون وذلك تكريماً لنتاجات الكتاب وتقديراً لعطاءاتهم واحتفاءً بمكانتهم.
سهير المصادفة صاحبة «هجوم وديع» ترى أن محاكم التفتيش الإسلامية كانت قائمة في مصر بطرق شتى وتمارس القمع وتتربص بالإبداع وترفع قضايا طوال الوقت على المبدعين والمفكرين فما بالك بعد أن صاروا بالسلطة حيث الضربات الإعلامية متوالية، مشددةً في حديثها للبرنامج على أنها لا تثق بأي وعود «للفاشستية الإسلامية» قبل وبعد تسلم الإسلاميين للسلطة، وهم الذين كانوا ضد أية تحركات ضد «النظام السابق» من باب أن «الخروج عن طاعة الحاكم حرام»، ثم التحقوا بركب «الثورة» فيما بعد بحماسة ونشاط.
وأن طريقة استحواذهم على السلطة هو ما جعل البلاد تعيش حالة انقسام، مبديةً تخوفها على مكتسبات الثقافة المصرية.
لاعبو ورق الشدة والضجيج
الكاتب والإعلامي التونسي محمود الحرشاني يرى في عالم المقاهي عالم تواصل دائم لديه، إذ اتخذ مقهى واحداً يقصده في السنوات الأخيرة وفي ساعات محددة بالصباح حيث تأتي المقاهي شاهدة على الولادة الأولى لكتبه واللمسات الأخيرة ومراجعاتها، تنقيحها وإضافاتها الجديدة.
مشيراً إلى أن المقهى فضاء مفتوح وهو يرمز للحرية والتواصل الاجتماعي وأنه يجد راحة في الكتابة بالمقهى إذ يستلهم من الضجيج في زوايا المقهى بعض الخواطر ويضمنها في كتبه وأنه يسترق السمع ويلتقط بأذن الإعلامي وحساسية الكاتب ما يدور في أروقة المقهى حيث تختلط صيحات لاعبي الورق مع الجالسين وأحاديثهم والزفزات هنا وهناك ما يوفر- يعقب الحرشاني - صوراً ابداعية لا توفرها الأماكن الأخرى أو الفضاءات الأخرى.
ويرى الحرشاني الذي ترأس فرع اتحاد الكتاب التونسيين لسنوات في «سيدي بو زيد» أن المقهى لم يبق على عهده القديم في دوره التقليدي والمميز في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مشيراً إلى مقهى باريس الذي اتخذه الأديب أبو زيان الصعبي مجلساً أدبياً له يؤمه أصدقاء الكاتب من الأدباء والمثقفين وكذلك مقهى «أفريكا» الذي كان من رواده أبو القاسم محمد كرو.
سينما.. كتب.. ومد سلفي
ويشير الحرشاني إلى جماعة «تحت السور» ودورها الثقافي الكبير في المشهد الإبداعي التونسي وإلى أعلامها: الإعلامي الهادي العبيدي وعلي الدعاجي رائد القصة القصيرة في تونس والشاعر مصطفى خريق ومحمود بيرم التونسي.
ورداً على سؤال عيسى معد ومقدم البرنامج عن تخوفات من طغمة السلفية والفوضى والهجمة الظلامية يؤكد الحرشاني أن المثقفين والكتاب لم يصلوا بعد إلى مرحلة الكتابة تحت الخوف، ولم ينف حالة الخوف لدى مبدعين يرون في المد السلفي الحاضر في المشهد التونسي؛ المد الذي يتناقض بطبيعة الحال مع أفكارهم، مشيراً إلى إلغاء إدارة مهرجان قرطاج السينمائي في نسخته الرابعة والعشرين لشريط افتتاحي للمخرج النوري بوزيد تخوفاً من هجمة المد السلفي، لافتاً إلى أنه مهما كانت أسباب ومبررات هذا المنع فإنه طغى على المشهد الثقافي وإن لم يصل المد السلفي إلى مرحلة إلغاء الآخر أو فرض ثقافة معينة، مشيراً أيضاً إلى معرض الكتاب الدولي في دورته الأخيرة حيث الهيمنة الواضحة للكتب ذات المرجعية الدينية، والسلفية على حساب عناوين الكتب الأخرى إذ وجهت انتقادات شديدة لإدارة المعرض التي رأت هي الأخرى أنه لا يمكنها منع الكتب وتركت الحكم والاختيار للقراء.
الحرشاني تحدث أيضاً عن عهد جديد وإن لم تتوضح معالمه بعد إلا أن الحاجة باتت ملحة للرومانسية في خلق الجمال وواقع جديد طموح مفعم بالحلم.
المثقف والدور الغائب
الكاتب والشاعر الليبي محمد قذافي مسعود يروي كيف أن القهوة حاضرة في لحظة الكتابة إذ يجلس وحيداً وبعيداً عن أي صوت أو حركة معتزلاً الاتصال مع الآخرين ووحدها رائحة القهوة صديق في لحظة الكتابة، أما عن المقاهي فإنها أصبحت - تبعاً لمسعود - متنفساً للمثقفين والأدباء الليبيين وخاصة في السنوات الأخيرة ومكاناً لتبادل الرؤى والشعر والنصوص وعناوين الكتب حتى السرية منها وموضوعات كبيرة تخص الفكر والسياسة.
ورداً على سؤال عبد عيسى حول تخلي المقهى عن دوره لصالح المسجد في «الربيع العربي» يقول مسعود إن دور المثقفين كان غائباً تماماً ولم يكن لهم دور قيادي أو تبشيري في إنهاء النظام السابق وهذه الحالة الثقافية المغيبة لم تقتصر على ليبيا فقط ذلك أنها - حسب مسعود - مشهودة في بلدان «الربيع العربي» فالناس هي من تحركت وليس المثقفين إذ تراجع المقهى الذي طالما كان حاملاً للأفكار والتطلعات في حضرة المسجد.
انكسار.. نكوص.. شللية
المقهى الثقافي استضاف الشاعر السوري عماد الدين موسى ورئيس تحرير مجلة أبابيل الثقافية إذ تصدت حلقة البرنامج هذه تبعاً لما جاء في موقع إذاعة روسيا اليوم لأسئلة الإبداع الشعري لفعل الحداثة في عالمنا العربي المنهك بأحمال الأزمات وأثقال الانكسارات والنكوص إلى المعتم الثابت من ماضيه. القبض على تحولات القصيدة الجديدة القادرة على الصمود في حركية المستقبل خلافا للقصيدة القديمة التي ظلت أسيرة المألوف والمتكررة وكذا خلافاً للقصيدة الحديثة التي بقيت رهينة زمانها الخاص كان الفضاء الأولي للإطلالة على جوهر الحداثة الشعرية.. وبينما يلتبس سؤال الشعر وعلاقته بالإنسان والعالم على كثيرين تتضح هنا رؤيا خلق القصيدة عالماً ابداعياً يسهم في جعل العالم أكثر جمالاً وقابلية.
ويشير الموسى إلى حالة القطيعة بين المتلقي والشعر والتحدي الأهم هو كيف نعيد فعل القراءة للحياة نوصفه إعادة إنتاج للعالم وكفعل إبداعي، موجهاً نقداً إلى مؤسسات ثقافية وبينما اليونسكو التي بدأت بمشروعها المهم «كتاب في جريدة» الذي ما لبث فيما بعد أن تحول إلى شللية.
في المقهى نكتشف أننا مختلفون
وإن تشابهت أجسادنا وأسماؤنا
البرنامج الذي «يعنى بالثقافة بوصفها فعلاً متحركاً مضيئا قادراً على خلق الجمال وإنقاذ العالم من قبحه» يقول عنه معده ومقدمه الشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى المقيم في موسكو: عدت مع إدارة راديو صوت روسيا، وقد كنت أعمل به بين عامي 1991 و2003، علاقة ود قديمة، مشيراً إلى عشقه لهذا المكان، وأنه متورط بحب العاملين فيه، وأن بينه وبين الميكروفون وداً قديماً.
ويقول عبدالله عيسى لـ«الوطن» عن البرنامج: لم أتردد، ولم يتردد مدير المحطة سيرغي بارازادينكو، وهو صديق قديم ومحب للثقافة والأدب العربي، وخاصة أنه ولد وعاش طفولته في القاهرة ومستشرق أيضاً، في الترحيب بأن سميت البرنامج «مقهى عبد الله عيسى الثقافي».
ويرى عيسى صاحب «رعاة السماء.. رعاة الدفلى» أن للمقهى في وعينا دلالات كثيرة «تبدأ بالحكواتي وانطلاق الثورات، مروراً بوصفها حيزاً خاصاً للمبدعين يدعو للحميمية مع الكلمة في غربة عن العالم المحيط». لكن السؤال الأهم الذي ركزت عليه – يعقب عيسى -هو ألا يسطو المسجد على مكان المقهى، كما نشهد الآن؟!!
للمقهى برأي عبد الله عيسى عادة أكثر حرية، يستدعي التلقائية والحميمية، يراهن الجسد على ملء مكانه المحدد فيه فيما تتزاحم الأفكار والأصوات. المقهى فضاء جميل للحب، وللعتاب، ولتسوية الخلافات بحوار على كأس شاي أو فنجان قهوة. وفي المقهى نكتشف أننا مختلفون وإن تشابهت أجسادنا وأسماؤنا. عادية أثاث المقهى ومشاريبه لا تعني فكرتنا في التحرر من ربقة الشارع وضيق البيت ووطأة المكاتب، بل نحن منشغلون بأن نتطهر من كل يومنا بتأمل فكرتنا فيه. كل العباقرة وجدوا أفكارهم في المقهى وقد كانت مطروحة في عرض الشارع أو على الرصيف. لأنهم كانوا أكثر حرية وصفاء..
ويختم عبد الله عيسى حديثه للـ«الوطن»:مع ضيوفي من المبدعين العرب ومن بلدان مختلفة عالجنا السؤال الأكثر إلحاحاً لي هل انحسر المقهى أمام مد المسجد؟ هل لا تزال مقاهي المدن التي احتفظت بذاكرتها بأسماء المبدعين الذين أمّوها، هل لا يزال المقهى فضاء للحديث الإبداعي، والجدل الفكري، والفتيل الثوري؟ ما الذي يحصل بفكرتنا، بل وبنا، إن لم يعد المقهى محطة يومية تفضي بنا إلى فكرة غدنا؟ أسئلة أؤرخ لها مع ضيوفي عن المشهد الإبداعي والمزاج الإبداعي والشغف لبناء عالم أشبه بالمقهى.. كل جسد في مكانه، نتعارف فيه على اختلاف ملامحنا وأفكارنا، ونتوحد على حبه. فليكن وطنا صغيرا في كلامنا، ونحن الذين نبني وطنا بالكلمات.
علي الحسن
إرسال تعليق